قراءة/ د. وليد جاسم الزبيدي

التقديم/ في متلازمةٍ هندسية ، وربطٍ عنكبوتي، وفق أسلوبٍ تقني حداثوي، يطلّ علينا القاص العراقي الأستاذ (محمد خضير) ليؤسس مع عدد من الأدباء مشهداً ثقافياً يؤرخ لأدب ثورة تشرين/ أكتوبر العراقية. فبعد اطلالته علينا في قصته (الصحفي) المنشورة في 26/ كانون الثاني-يناير 2020م، يطلّ علينا مرةً أخرى بتاريخ 3/ 3/ 2020م، بقصّةٍ أخرى عنْوَنَها (البُرج)، لكن، بصيغةٍ وخارطةٍ وأسلوبٍ ومن باب آخر مختلف، فإنْ
كانت (الصحفي) تبحث في موضوعة الصحفي الذي تسيّد الموقف وكان محور بل هو الراوي للقضية، اليوم يضعُ القاص المكان هو بطل القصة، وهو المتشيء فيها، وهو مسرح وهوية الحدث.
-القصّةُ وبُرجُها/ يتلاشى الزمن بحضور المكان، وتكون الجغرافية هي الذاكرة، بل لنقل أن الزمن يتجمّدُ أحيانا ويقف مندهشاً بفعل المكان. البُرجُ هو العلو، هو التطاول والتماهي على الآخر، مساحةٌ لإلتقاء التضاد اللامتجانس، شكلاً ومضموناً، محطةُ صراعٍ لنيل منصّة الرفعة والتصدر، يظلّ (البُرجُ) في لعبةٍ بين كرّ وفرّ، يتسيّد في أغلبها (العدميون) .
(العدميون) الذين تمردوا على كل قوانين ونُظم المنظومة، (عدميون)يُباغِتُون، ويُباغَتون، في الضد منهم(الفرقة السوداء)،و(مناجذ/جرذان)،و(الأسهم المتضادة)، و ( سُحب فيروسية ملولبة).
تقرأ ما في السّرد، وكأنّكَ تلعبُ في حاسوبك معركةً ، شبيهة بـ (البوبجي)، أو أنّك تجمع (بوكي مون)، تتسلى معها وتتفاعل بحرارة، وتطلّ عليك صور الزنابق التي تتحدى (الفرقة السوداء)، تلك الفتاة التي ضلّت طريقها بفعل الأسهم المتضادة، لتبرز المرأة في المشهد، لتكون عُدّة وذخيرة (العدميين)، ومشهد سوداوي كالح، بصلب عدمي كسيح، ... ، وصور ثورة (التوك توك)، ويوم (الزرازير)، ويوم (النمل)، والغزوات المموّلة،...، كما وأشار بذكاء الى مرض الكورونا (سحابات كورونات غازية)، أو كما له تسمية أخرى (كوفيد 19) ، وصور الاعتقالات والخطف، وغيرها من الصور المكثّفة، كلها صورٌ تنبيك عن بُرج أضحى منارةً ورمزاً مقدساً لا يمكن التفريط به، وسيظل يشير الى صور الترهيب والدسيسة، والهذيانات، والفضلات والمخلفات لزواحف وقوارض أرادت أن تدنسه ببشاعته المعروفة.
-ثقافة (العدمي): كيف يواجهُ (العدميّ) هذا الكم من الجيوش الخرافية التي تحيط به وتحيك الدسائس الأرضية والألكترونية له، ثقافتهُ، نعم وثقافةُ (العدمي) الرسائل والنصوص المشفّرة، التي يستعين بها للوصول الى السراديب والمرتفعات، الصبر والتحمل في مكافحة الثلج والمطر، معرفته بأسباب ونتائج (كومونة في قرون صعود البروليتاريا)، وثقافةُ (العدمي) من مكتبة (نيتشة)، وكتب (ابن الراوندي)، ونبوءات (الخيميائي)، ومن روايات اليهودي (عاموس) الرواقية، تتجلبب بطقوس ماسوشية تعجّل ببزوغ النجمة الحمراء في قبعة جيفارا.
هكذا أثّث القاص ثقافة (العدمي) الذي يواجه هذا الدمار والغزو، ويبتدعُ لهُ رمزاً جديداً (دفلى الربيع الأسود)....!!؟
-تأثيث السرد: لقد عمدَ القاص المبدع الأستاذ (محمد خضير) في تأثيث تجربته السردي في هذه القصة، الى استخدام جميل حيث ذَيّل السرد ، وجعل المتن يتكوّنُ من مقطعين عنونهما بالأرقام (1 و2 و3)، وجعل في نهاية القصة (هامشاَ) ، سمّاها ملاحق، وهي فقرات من تقرير الفرقة السوداء، ورسالة من عدمي، وفقرات ومستندات تدعم النّص (المتن).
الختام/ وفي الختام وضع (ملاحظة الراوي) وهي دعوة للمتلقي في تقريب الرؤى وملأ الفراغات في نص القصة، وفك رموز عمّا أستغلق وأستبهم عليه. وأنت تقرأُ (البُرج) تتشخصن لك الصور في صورة(المطعم التركي) وهو أيقونة الثوّار، وموطن اعتصامهم ومنبع سلوكهم اليومي تجاه كل القساوة والبطش والقمع، وصور أخرى في ممارساتهم اليومية في حب المطالعة والكتاب والرسم والحياة الثقافية والاجتماعية في مجتمع جديد منشود للغد، مع صورة الفتاة والمرأة التي تظل الجزء المتمم للصورة لا الظل، وقد صوّر الكاتب في أسلوب رشيق ومدلولات ايحائية ورمزية لكل ما يتضمنه الموقف من محاولات بائسة ويائسة للجرذان والسحب الكارونية ، في اغتصاب المقدّس. بناءٌ رصينٌ ، وحبكةٌ مقتدرة، في تأسيس أدب ثورة أكتوبر.