ثائرة اكرم العكيدي

مر اربعة اعوام على (نزوح ام عمر) وعائلتها الى كردستان كانت تسكن اطراف بغداد بيت صغير هي وزوجها واطفالها الخمسة اربع بنات وولد اصغرهم كان عمره 3  سنوات عندما تهجروا .. ارغمتهم ظروف القتل والحروب في تلك المناطق من ترك بيتهم المتهاري وجيرانهم ومعارفهم  حالهم حال العديد من العوائل العراقية التي تعرضت للبطش والقتل من قبل داعش والمليشيات فلا فرق بينهم سوى قيد شعرة   .
ام عمر امرأة اربعينية هي ربة بيت لم تكمل دراستها الابتدائية لكنها فطنة ونشطة اضطرت للعمل لمساعدة زوجها في اعالة عائلتها    
عندما تعرفت عليها كانت تبيع ملابس قرب الجامع الكبير في السليمانية مفترشة الارض ببضع قطع تصدق بها بعض اهل الخير كنت كل يوم عندما اذهب للمؤسسة امر من جانبها القي عليها التحية فتنهض من مكانها والبسمة تفترش وجهها الاصفر الشاحب اللون وابنتاها معها يساعدنها بما يقدرن ..منذ سنتين من تهجيرها ارتمى زوجها الفراش،واصبح عليلاً لايقوى على العمل فأنصب عناء المسؤلية كاملة عليها

كنت اجدها تفترش الارض في الشتاء  تحت المطر والبرد القارس وفي الصيف تحت اشعة الشمس الملهبة كنا انا وزملائي نساعدها قدر المستطاع وكانت ماتجده منا يسعدها كثيرا.. كنت اسألها دائما عن حالها وكيف تستطيع تدبر امورها مع بناتها الاربعه وابنها ذو السبعة  اعوام  وزوجها العليل؟  كانت تجيبني مع ابتسامة خرساء غارقه بحزن التعب والهم :
جلوسي وحدي لساعات طويلة علمني التأمل في الأشياء وفي خلق الله وتصرفاتهم وأن ما حدث لي ما هو إلا ابتلاء ومصيبة مكتوبة لي.
وضعت قول الله سبحانه وتعالي: وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أمام عيني وفي عقلي وقلبي وتعلمت كيف يكون الصبر علي المصائب مهما تكن صعوبتها فلم أقنط أو أعترض وكل ما أفكر فيه هو كيف أعيل عائلتي اولادي وزوجي .
لا استطيع ان أتوجع أو أشكو حتي لا أزيد من هموم زوجي. المريض وبناتي وصغيري .. أليس كتم الآه يا سيدتي  عذابا آخر أشد من الألم نفسه؟
وترفع راسها ثم تقول:
ما أصعب المرض يا سيدتي عندما يصيب الفقراء فيزيد معاناتهم بجانب الحرمان والجوع فقد يهون الفقر أمام الصحة لكن أن يجتمع الفقر والمرض معا فهذا أمر لا يمكن تحمله وأدعو الله ألا يكتبها لأحد...
كانت تسكن في حي شعبي بيت قديم عبارة عن غرفة وصالة صغيرة ومطبخ صغير  اجرته بثمن زهيد وصاحب الملك كان متعاطفا معها  
إلا أن هذه الأسرة الصغيرة كانت تتميز بنعمة الرضا و تملك القناعة التي هي كنز لا يفنى .لكن أكثر ما كان يزعج ام عمر  هو سقوط الأمطار في فصل الشتاء.. فالغرفة الوحيدة في بيتها الصغير كانت ذات رطوبة وعندما شتد  الامطار ينزل قطرات من سقف تلك الغرفة فتظر(ام عمر)  ليلتها ساهرة كي تجمع حبات المطر في قدر خوفا من يصل الماء لفراش اطفالها  
وذات مرة ومع ساعات الليل الأولى هطل المطر بغزارة على المدينة بأسرها  فاحتمى الجميع في منازلهم أما (ام عمر)  و اؤطفالها فكان عليهم مواجهة موقف عصيب . تسربت المياه للغرفه بكثافة استيقظ ابنها عمر نظر  إلى أمه نظرة حائرة واندسَ في أحضانها لكن جسد الأم مع ثيابها كان غارقًا في البلل .فاتت ببطانية كان قد استلمتها من احدى المنظمات الانسانية  ولفت صغيرها بها فدخل الدف جسده وقلبه فنظر لأمه وقال لها : ياترى  كيف يحتمي اليتيم الذي فقد والدته الحمد لله على وجودك ياأمي لقد أحس الصغير في هذه اللحظة أنه ينتمي إلى طبقة الأثرياء..
كنت دائما افكر ب(ام عمر) واطفالها كيف ان بطانية تعني الكثير لأسرة معدمة
منذ ان تحدثت لي عن فصل الشتاء وماتعانيه. قلت لها: انا ايضا لاانكر كراهيتي لهذا الفصل سببها له اصول نفسية ترتبط بذاكرتي عن الاستيقاظ مبكرا للذهاب للمدرسة والوقوف عند محطة الباص والانتظار الممل واوصال البرد تسري في جسدي والليل والمذاكرة وهول الامتحانات  كانت المفاجأت تعبث بحياتنا وهي تخرج تباعاً من جعبة الايام .
ذلك  الشارع الذي وجدت فيه عشرات الحكايات اللا منتهية  مع كل محطة تأتي المآسي والشجون مع كل محطة نجد مئات (ام عمر)  إنه الشارع  الفقر والجوع والمذلة  اأطفال ضعفاء  يصارعون مع كل سقم  وألم ..انه وباء الفقر والجوع يزداد عدد مصابيه يوما بعد يوم فتجدهم يضحكون لانهم فقط يتنفسون . وبائهم غير خطير او مؤذي او معدي حد الموت .. يعيشون  في عالم أخرس عالم لا يرحم ضعفهم وقلة حيلتهم...