سامي ندا جاسم الدوري

 

عاتبيني أننـي أهـوى العتـاب     واسأليني واسـمعـي مني الجواب

عذبيني في هــواكِ واعلمي في      هواكِ لـم اعــد اخشَ العذاب

أرجعي لي كـل أشعـار الهوى       كلهـا كانت سرابا فـي سراب

كلما قلت هوانا قــــد بـدا        جاءت الريح بأنـواع التـراب

حطمت عشي وهــدّت موضعي        وببحر الشعـر قـد عاث الخراب

وبعيني أظلمت شمـس الضحى       لا تلومـي عاشقـا شـق الثياب

فجراح الحب تبقـى في الحشا         لا تداوى 00 بطبيـب أو كتاب

قـد حملنـاها بقلــب صابر        ومـشيـنا دربنا فـوق الحراب

كل عشق دون وصــل صادق      سوف يمضي ما له في الكون باب

أقرئي التاريــخ تلقي عـجبا         كم شباب في هوى المحبوب شاب

وكذا المجنون قـد جـاب الفلا        بعدما سدوا على المـجنون باب

صار رمزا صادقا بيـن الورى        وهواه صـار فـي الدنيا نقاب

وأنا بالحب خيلي قد كبت بعدما        كانت خيولي في الســـحاب

أكل العـذال لحمــي وبكوا         فـوق قبري وأنا تحـت التراب

أن للحب درسا فــي الورى         لا تبالي بيـن تــل أو هضاب

قد مشاها قبلنــا أهل الهوى          وقرأنا كيف عاشوا في الصعاب

غضب الدهر عليهم فان زووا         وكذا الأسيـاد قد كانوا غضاب

وتراب العشــق يبقى عالقـا        قد شممنا كلنـا ذاك التــراب

وحملنـاه 00علـى أسمالنـا        وجعلنـاه على الرأس خـضاب

حاسـبونا لــو نكثنـا عهدنا        وأنصفوا العشاق في نار الحساب

فهـــوانا مثـل مسك فائح         أجعلتم مسكنــــا فيكم عقاب

وهـوانا حـب بارينــا الذي       قـد عبدناه بصــدق لا سراب

قـد عرفنـــاه بقسـط قائم       وقــرأنا كــسطر في الكتاب

وكذا المخـتـار قـد أرشدنـا      بحديـث صـادق حلو الشـراب


قام بتحليل ونقد قصيدة عاتبيني للشاعر سامي ندا جاسم الدوري الناقد حمدي مخلف الحديثي فقال: قيل : أنّ عتب الحبيب مثل أكل الزبيب ، تشبيه رائع .....لكن الشاعر سامي ندا الدوري يدعوها الى العتاب بشكل آخر  :

 

عاتبيني أننـي أهوى العتــاب    واسأليني واسمعـي مني الجواب

عذبيني في هـواكِ واعلمـي في     هواكِ لـم اعــد اخشَ العذاب

أرجعي لي كل أشعـار الهوى     كلهـا كانـت سرابا فـي سراب

 

لقد استجمع الشاعر سامي الدوري طاقته الشخصية والشعرية كلها في دعوتها الى العتاب منتظراً منها الأسئلة وهو المستعد للإجابات الواضحة.

لقد خلق من الأبيات حوارية الشعر المتفاعلة مع الآخر وعبر العتاب والعذاب، ولهذه الأبيات خطاب شعري فيه من الألم والعتاب وحكى المعاناة الذاتية العاشقة.

إنّ من بداية البيت الأول لهذه القصيدة وجود إيحاء شعري مرهف من التكثيف الصوري ونبض الحب وعبر أسلوبها الذي فيه من الرجاء وليس التوسل. ولعلّ أبرز ما يميز هذه القصيدة الأبيات التالية:

 

حطمـت عشي وهـدّت موضعي        وببحر الشعـر قد عاث الخراب

وبعيني أظلمت شمـس الضحى       لا تلومي عاشقا شــق الثياب

فجراح الحـب تبقـى في الحشا       لا تداوى 00 بطبيـب أو كتاب

 

وهذا التميز مكمن تدفق جراح الحب وشعوره بضبابية الطبيعة عبر الشمس التي باتت ظلماء. ومن هذا وجود قوى خفية دفعت بالشاعر الى قول هذا الشعر المتدفق الرؤى مثل شلال هادر بحساسية تستوعب ذات الشاعر:

 

كل عشق دون وصـل صادق      سوف يمضي ما له في الكون باب

        أقرئي التاريــخ تلقي عـجبا      كم شباب في هوى المحبوب شاب

وكذا المجنون قد جــاب الفلا       بعدما سدوا على المـجنون باب

 

إنّ الأبيات التي مرّتْ أعطت كثيراً من الحالة النفسية العاشقة الهائمة ... ولم تكن هذه الأبيات حصناً منيعاً أزاء بوح الشاعر العاشق عما أصابه من جنون الحب ، وعبر ذكره بطلب منها أن تعود الى تأريخ الحُبّ ومن وقع فيه لتجد مثلاً قيس وليلى ، وهيام قيس في الصحراء مناجياً الروح ، والحبيبة الى جانب الوقوف عند جنون الحب الذي مسّ الكثير من الشباب بعد أنْ أغلقت أبواب الآخر بالوجه وراح يجوب الطرقات ، والصحارى ، وليله لا ليل غير آهات ، ونهاره دموع ونظرات حزينة لكنّ المجنون في الحُبّ ليس المجنون الذي فقد عقله ووضعوه في مصح لفاقدي العقول . إنه هو مجنون آخر، لا يعرف غير كلام الحبّ، ولا يشعر بوجع غير وجع الحُبّ.

 

    أي تصوير شعري هذا ...؟

 

والشاعر سامي الدوري في إثارته (للجنون) يُعدّ طبيباً نفسياً لمرضى الحُبّ لكنّ الداء كبير والدواء خلف الأبواب المؤصدة. لقد أثرت هذه الأبيات في نفسية القارئ، خصوصاً إذا كان القارئ قد فشل في الحُبّ. وأنّ التصنيف الذي أوجده الشاعر المتمثل بقصص التأريخ وبجنون الحبيب الهائم في الفلا تصنيف دقيق، ومختصر لحالات الحُبّ السلبي:

 

وأنا بالحب خيلي قـد كبــت      بعدما كانت خيولي في السحاب

أكل العذال لحمـي وبـــكوا      فوق قبري وأنا تحــت التراب

 

تكمن رؤيا الأبيات في خيول هذا العاشق الشاعر كون هذه الخيول ليست من أصناف الأشهب، ولا الكميت، ولا هي عربية أصيلة يمتطيها فرسان ساحات القتال، ولا هي مستوردة من أجل الوصول الى خيول هجينة، إنما هي خيول الروح والحُبّ، الخيول التي بحوافرها حفرت أخاديد في القلب، ونزف الدم ليعطي دلالة الصدق في الحُبّ ...

والعذال، هم الذي أكلوا لحمه بفرح ورقصوا، لكنهم بكوا كذبا فوق تراب قبره. العذال لا يبكون حزناً ... إنما يبكون فرحاً ويرقصون ... لماذا هذا التشبيه؟

 

العاشق الميت في الحب قبره مزار العشاق، وحكايته حكاية كل العشاق:

 

أن للحب درسا فــي الورى       لا تبالي بيـن تــل أو هضاب

قد مشاها قبلــنا أهل الهوى       وقرأنا كيف عاشوا في الصعاب

 

أخذنا الدروس كلها، لكن درس الحب أصعبها ومن يفشل في هذا الدرس يفشل في الحياة، يبقى منكسراً، حزيناً، يغسل وجهه بدموع حارة فيصرخ: آه ... أيُّ وجع ودمع هذا؟ إنّ هذا التصوير الشعري قلعة هذه الأبيات، لا بل قلعة القصيدة كلها وهي سياج إبداعه هنا. فعن هذا التصوير يسمو خطاب القصيدة ويرتقي بالقارئ الى ذرى الحُبّ ولا يسقط إلاّ دمعه غيوم من الحُبّ ومطرها ورد ملون لا يذبل إلاّ بين يدي الحبيبة بعد أنْ تشمّ هذا الورد ويبقى معها الزمن:

 

وهـوانا حـب بارينــا الذي      قد عبدناه بصـــدق لا سراب

قد عرفناه بقســـــط قائم      وقـرأنا كـل سطر في الكتاب

وكذا المخـتار قــد أرشدنـا     بحديث صــادق حلو الشـراب

 

إنها أبيات مسك الختام وفيها معادل موضوعي، اعترف أنّ الحُبّ الذي هو فوق كل أنواع الحب، هو حُبّ الخالق ورسوله وكتابه الكريم. لقد استسلم هذا العاشق لحبّ الله بعد فشله في حُبّ الحبيبة، أليس كذلك.