الواسطة لغة هي الشفاعة، والوسيط المتوسط بين المتخاصمين واصطلاحاً الشفاعة عند أحد المسؤولين لتقديم خدمة لأحدٍ ما. والإسلام حثّ على خدمة المسلم لأخيه المسلم متى قدر على ذلك، ولهذه الخدمة صور كثيرة، منها الشفاعة، حيث يقوم المسلم باستعمال جاهه ومكانته عند شخصٍ ما لتقديم خدمةٍ لمسلم محتاج، كأن يشفع له عند صاحب العقار لتأجيل أخذ الأجرة من المستأجر العاجز عن الدفع، أو يشفع له عند قبيلة للتنازل عن حقٍّ لهم على أحد، أو يشفع له عند مسؤول لتخفيف العقوبة المستحقة على أحد الناس. وهذه الشفاعة يحث عليها الإسلام لما فيها من تكاتف المسلمين وتعاضدهم المندوب إليهما في الكتاب والسنة، قال سبحانه (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وقال أيضا( مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً) وقال صلى الله عليه وسلم ( مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) .ومن الصور المشهورة التي لها علاقة بالوظيفة التوسط عند مدير الدائرة الحكومية لتوظيف أحد المتقدمين ، أو ترقية موظف، أو إعطائه ميزات دون غيره. وهذه الواسطة يمكن أن تكون حلالاً، أو حراماً حسب الحالة والاستخدام، والأصل فيها الإباحة، فمثلاً إذا تساوى المتقدمون للوظيفة في الشهادات والخبرات، ثم توسّط شخصٌ لأحدهم لأنه يمتاز بالأمانة، ويعرفه عن قرب، أو لأنه يعول أسرة كبيرة، وفي توظيفه تفريج لكربته، فالواسطة هنا جائزة، لأن الأول أقرب إلى تحقيق المصلحة العامة، ولأن الثاني فرَّج عنه كربة، وهو مأمور به شرعاً، مع عدم ظلم أحدٍ من الناس، وكذا لو طلب شخص إعطاء أحد الموظفين ميزات لسببٍ معقول، دون تأثير على الآخرين، وهذه الميزة الوظيفية من صلاحية المدير، فالواسطة هنا جائزة أيضاً، لما فيها من نفع المسلمين ، وقد قال صلى الله عليه وسلم ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) والجامع في الواسطة الجائزة أن تكون الواسطة غير مخالفة للنظام، ولا يترتب عليها ضرر للآخرين. وهناك حالات تحرم فيها الواسطة، مثل: أن يتوسَّط الشخص لرجلٍ يعلم أنه لا يستطيع القيام بالعمل. أو أن يتوسَّط الشخص لرجلٍ مع دفع رشوة، أو أن يتوسَّط الشخص لرجلٍ مع علمه أن توظيفه أو ترقيته مخالف للنظام. أو أن يتوسَّط الشخص لرجلٍ ويترتب على الواسطة حرمان موظف من ترقية، مع أنه أكفأ ممن تُوسِّط له، أو منع موظف من حقه. ولا شك بأن الوساطة السيئة لها انعكاسات سيئة على العلاقة بين الموظف والوظيفة العامة مع الجمهور، وتؤدي إلى زعزعة الثقة والإخلال بالمساواة بين الناس، والتعقيد في أداء الأعمال، وعدم المبالاة بمصالح الناس، وانخفاض مستوى الكفاءة الإدارية، وقد يكون المسؤول هو الذي يدفع الناس لاستخدام الواسطة، فلا يقدّم عملاً إلا بأن يأتيه الناس بواسطة، إذلالاً لهم، وامتناناً عليهم، وهذا أسلوبٌ مهين ونفسٌ فاسدة، تتمتع بالعلوّ والافتخار على حساب الضعفاء، فحقها الامتهان والازدراء، وكما تدين تدان. وأقول إن على الإنسان أن يستغني عن الناس قدر استطاعته، قال صلى الله عليه وسلم (من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة) ، ومن اعتاد على سؤال الناس خدمتهم أدمن على ذلك، وقلّ اعتماده على الله تعالى وتوكُّله عليه، وقلّ اعتماده على نفسه وثقته بها، وأصبح يزاحم أهل الحاجات الأكثر حاجةً منه، وربما طلب شيئاً لنفسه مع أن غيره أحوج منه، بل ربما دعاه لذلك إلى التكثُّر وهو سؤال الناس خدمات ليست ضرورية، وإنما الهدف منها أن يكون أكثر من غيره مكانةً، أو مالاً. وقد قال صلى الله عليه وسلم ( من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقلّ أو ليستكثر) وهذه آفةٌ نفسية أراها عند بعض الناس، وهي الراحة النفسية بإحساس المرء بخدمة الناس له، حيث يحسّ أنه مخدومٌ من الناس فيشعر بالمكانة والتقدير، وهذا وهم؛ فإن المكانة تكون بالاعتماد على النفس لا بالاعتماد على الآخرين، فإن الناجحين والمبدعين هم الذين يعتمدون على أنفسهم ويقدِّمون الخدمة للآخرين لا العكس، وأيضاً فإن الناس تحتقر من يكثر طلب الأشياء منها، ويتهمونه بالوهن والعجز، وأيضاً فإن من يُخدَم يحتاج إلى ردّ الجميل، وربما لم يستطع فيسبب له ذلك شعوراً بالذنب.
0 تعليقات
إرسال تعليق