د. باهرة الشيخلي



في العراق كما في لبنان نظام حكم مخترق من قوى توالي دولة أجنبية، وما يحدث في العراق وفي لبنان وآخره الانفجار المروع الذي دمر بيروت هو نتيجة طبيعية لهذا الاختراق.
الفتى العراقي هو العراق نفسه
محنة الفتى العراقي، الذي انقضّت عليه بوحشية ما تسمى قوات حفظ النظام، لم تكن محنة العراق فقط، بل أثارت العالم كله وتبناها الناشطون في القارات الخمس، إذ تجاوزت الخاص إلى العام فشرعت الصحف في فضحها ووثقت الفضائيات ما جرى من امتهان للكائن العراقي.
الفتى العراقي كان هو العراق نفسه ألم ينتزعوا منه كل ما عليه وما بحوزته وأصبح عاريا فانهالوا عليه يحاولون أكل لحمه حيا وقضم عظامه.. إنه العراق.
خلال أقل من 24 ساعة فقط، كانت حادثة الفتى بانوراما أظهرت بأبعادها الثلاثة حقيقة دولة اللاقانون المتهاوية ومدى فساد سلوك منتسبي جهاز الأمن الداخلي، مع أنهم أطلقوا عليه زورا وبهتانا اسم قوة (حفظ القانون).
هذه المحنة، كما غيرها من الانتهاكات اليومية، التي ترتكبها الأجهزة الحكومية، والتي أصبحت، كما الميليشيات الإرهابية، تصول وتجول في العراق من غير متابعة وخارج الرقابة، بل أصبحت تتحدى السلطة المركزية.
الواقعة، التي أحدثت جرحا عميقا في وجدان الكوكب الأرضي كانت رسالة مؤازرة إلى شباب الحرية في ميادين استعادة الوطن "أن انهضوا وأعيدوا شمس العراق، مرة أخرى"
صمتت المرجعية الشيعية أمام هذه المحنة، مع أنها يجب أن تشعر بالحرج لأن أغلب منتسبي القوة، التي اعتدت على الفتى بالفعل والألفاظ السوقية، كانوا من الحشد، الذي أمرت فتوى المرجعية بتأسيسه، فالميليشيات القذرة من حشد المرجعية “المقدس”! إلى الطفيليات المسلحة الأخرى هم قتلة ساقطون، وكان اعتداء هذه الميليشيات والطفيليات على الطفل العراقي امتهانا لكرامة العراقيين كلهم.
في رأي الكثيرين أن صمت السيستاني المتكرر على مثل هذه الخطايا، يبرهن على أنه ليس أكثر من حزب من الأحزاب وله جناح عسكري يقاتل باسمه، وليس بعيدا أن تكون بنادقه ضمن الأسلحة، التي أجهزت على شباب التحرير.
ليس صحيحا أن الميليشيات حرّكت منتسبيها في الأجهزة الأمنية لإحراج رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وإظهاره في وضع الضعيف أمام الشارع العراقي، وليس صحيحا أيضا ما أقر به أحمد ملا طلال، المتحدث باسم الكاظمي، بوجود عناصر في أجهزة الأمن لا يوالون الدولة ولا يطبقون القانون، في إشارة إلى أفراد زرعتهم ميليشيات تابعة لإيران في وزارة الداخلية.
والصحيح، كما يرى العراقيون أن في بلدهم، كما في لبنان، نظام حكم مخترق من قوى توالي دولة أخرى، وما يحدث في العراق، منذ احتلاله وما يحدث في لبنان، وآخره الانفجار المروع الذي دمر بيروت، هو نتيجة طبيعية لهذا الاختراق، وما هو غير طبيعي ألا يسوء حال البلدين والبلدان التي تخترقها إيران وتتدخل في تفاصيل حياتها السياسية والاقتصادية، وألا تشهد هذه البلدان امتهانا لكرامة الإنسان فيها وإبادة لوجوده.
تسبب انتشار التسجيل المصور للحدث، الذي أظهر اعتداء عناصر ضمن قوة “حفظ القانون” على المراهق العراقي، بعد أن ألقي القبض عليه في ساحة التحرير، حيث يعتصم المئات منذ شهور، مطالبين بإصلاح النظام السياسي، استياء واسعا وصدمة للرأي العام العراقي والعربي والعالمي، فقد وثق التسجيل المصور قيام عناصر “فرض القانون” بحلق رأس فتى بموسى حاد يسمى “كتر”، وقطع أجزاء من فروة رأسه، وهم يركلونه ويكيلون له ولوالدته أقذع الشتائم.
لم يصدق العراقيون الإجراءات التي اتخذها الكاظمي بصفته قائدا عاما للقوات المسلحة، بتجميده عمل ضابط كبير، بعد ثبوت تورط القوة التي يقودها في انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، والقبض على المجموعة التي اقترفت التجاوز ضد الطفل وتقديمهم للقضاء، فقد اتخموا بوعود وشبعوا قرارات لم يقو متخذها على تنفيذها، وهم يريدون أفعالا ملموسة، وطالبوا أن تكون هناك محاكمة علنية أمام الشعب لهذه الطفيليات، التي تهين العراقيين منذ الاحتلال إلى الآن.
قد يكون الكاظمي صادقا في تمنياته، لكن المقولة الأشهر في العراق، اليوم، هي أن القوى السياسية، ما بعد الاحتلال، وفي غياب القوى الوطنية التي تطاردها وتحظر فعلها القوانين التي فرضها الاحتلال، من عهد بريمر، تقول لبعضها “أنا أريد وأنت تريد وإيران تفعل ما تريد”.
هذا هو الواقع السائد في العراق، الآن، وبالرغم من ذلك فإن أصوات القوى الوطنية المحظورة أبدت ردود أفعال حركت الشارع العراقي، وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بمقالات وقصائد وبيانات نارية، كلها تطالب بالاقتصاص من الجناة، وفيها فضح لمحاولات الحكومة وسعيها إلى التستر على القضية، فمادام الأمر يتعلق بالميليشيات والقوى الأمنية، التي تخترقها هذه الميليشيات، وهي أقوى من الحكومة وأجهزتها، فمن الخير للحكومة أن تغضّ النظر عنها.
وقد رأينا كيف أن رئيس الجمهورية برهم صالح لم يصدر أي ردّ فعل عنه أو عن رئاسته إزاء هذه الجريمة المروعة، بالمقاييس كلها، كما أن العراقيين عدّوا استقبال الكاظمي للفتى المعتدى عليه جزءا من عملية التستر والإخفاء التي مارستها الحكومة على القضية.
نقابة المحامين العراقيين، بشخص نقيبها ضياء السعدي، قررت تأليف فريق من المحامين المنضوين في لجنة حقوق الإنسان (المرصد القانوني)، في النقابة لإقامة الدعاوى القضائية الخاصة بالفتى، الذي ظهر، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والذي وقع عليه الظلم والتشهير من قوات (حفظ النظام)، واصفة الاعتداء بأنه فعل شنيع لا يرتبط بالأخلاق أو المروءة في شيء، وينافي مبادئ حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية، التي يرتبط بها العراق، ويمثل خرقا فادحا حقيقيا للدستور والقانون العراقي النافذين.
صمتت المرجعية الشيعية أمام هذه المحنة، مع أنها يجب أن تشعر بالحرج لأن أغلب منتسبي القوة، التي اعتدت على الفتى بالفعل والألفاظ السوقية، كانوا من الحشد، الذي أمرت فتوى المرجعية بتأسيسه
وبادرت النقابة إلى دعوة عائلة الفتى المعتدى عليه التواصل مع النقابة، من فورهم، عبر منصاتها الإلكترونية لاتخاذ الإجراءات القانونية العاجلة كافة.
كانت الناصرية، التي يعدها الكثيرون مركز ثقل الثورة الشبابية العراقية، السباقة إلى الإعراب عن سخطها وغضبها على هذا الفعل الشنيع، وكانت أهزوجة شبابها الثائر في ساحة الحبوبي “أبشر يا محمد أمك من ذي قار”، ومعنى الأهزوجة واضح، وهو أن أمك يا فتى منا وأننا سنثأر لك ولها من المعتدين عليكما، وهو ما حرّك عشيرة الفتى وعشيرة أمه ودفعها إلى الطلب من العشائر التي ينتمي إليها المعتدون بإعلان البراءة منهم.
الأحزاب والميليشيات توفر غطاء للعديد من الضباط الفاسدين، وتساعدهم على الترقي وشغل مناصب حساسة، لذلك فإن مستوى الاختراق في الأجهزة الحساسة قد يصل إلى مراتب عليا، ولذلك، أيضا، فإن العراقيين ينتظرون الأسوأ من هذه الأفعال والتجاوزات الشنيعة مادام هذا الاختراق موجودا، فما من سبيل لعلاج الإرهاب المسلح سوى ثورة شباب تشرين، فهي وحدها القادرة على أن تضع خطوة البداية وتكون بادئة الخلاص ليستعيد شعب الرافدين حلمه الوطني.
هذه الواقعة، التي أحدثت جرحا عميقا في وجدان الكوكب الأرضي كانت رسالة مؤازرة إلى شباب الحرية في ميادين استعادة الوطن “أن انهضوا وأعيدوا شمس العراق، مرة أخرى”.
والسلام على شهداء الحرية.