الطاهر سهايلية


ارتبط مفهوم المواطنة بالدّولة القومية في الفكر السّياسي المعاصر والتي تعتبر نتاج تطور المجتمعات البشرية حدّ الوصول إلى تحقيق نوع من التوازن بين المساواة والحريّة، وذلك عن طريق تعزيز دور الفرد بإشراكه في الحكم وضمان حقوقه وواجباته من خلال الاعتماد على نظام ديمقراطي. ولكن في ظل التعدّدية الثقافية والسياسية والدينية التي تشهدها الدول القومية، وفي ظلّ تأثيرات العولمة نشأت أزمة المواطنة التي اتّخذت أبعاداً عالمية لنصل إلى ما أطلق عليه هابرماس بالمواطنة الكونية. ويمكن القول أنّ تعريف مصطلح المواطنة يخضع لطبيعة المقاربة المستخدمة: اجتماعية أو سياسية أو تاريخيّة أو قانونيّة... فمثل الدّيمقراطية تطوّر هذا المفهوم عبر التاريخ ولم يلق اجماعاً على تعريف واحد، وإذا أردنا إعطاء تعريفاً مبسّطاً للمواطنة سنقول أنّها الاشتراك في امتلاك الوطن؛ وهذا ما يميّز المواطن عن الفرد، فالأوّل يساهم بشكلٍ أو بآخر في إعداد القانون، في حين يكتفي الفرد بمجرّد الانصياع له.
 إن المواطنة صفة تُمنح للمواطن وتتحدد بموجبها الحقوق والواجبات، فهي تتضمن إنتماء المواطن لوطنه النابع من حبه له، وخدمته في الظروف كافة، فهو يحيا في مجتمع تربطه قواسم مشتركة، كالإرث والتاريخ والمصير المشترك والتطلع لمستقبل حضاري، وتتحدد وفق القانون التشريعي الذي تقره الدولة، باعتباره عقد اجتماعي مدني، بين الحاكم والمحكوم الذي مُنح صفة مواطن.
أما في الجزائر الجديدة القديمة لا يخلو المفهوم الرسمي للمواطنة ليومنا هذا من البعد التاريخي والنضالي والثوري، فالحصول مثلاً على بعض الحقوق كالوصول إلى بعض المناصب السياسية السامية، مشروط بموقف إيجابي شخصي أو عائلي من الثورة التحريرية، وهذا يرجع إلى ذهنية الحزب الواحد الذي اعتمد على مقاربة تاريخية نضالية في تحديد المواطنة، من خلال مساهمته في مسارات أو معارك البناء والتشييد ومتطلبات الحفاظ على الثورة حسب مفاهيم الميثاق الوطني والدستور، إضافةً إلى تأثير الحقبة الاستعمارية التي كانت بمثابة مرحلة تفكيك لمفهومي الدولة والمواطنة. كما أنّه من الجانب القانوني أحدث دستور 1976 نوع من اللاّتوازن في فهم الجزائري للمواطنة من خلال تكريس ثقافة الحقوق على حساب الواجبات (المجّانية) في إطار تحقيق دولة الرّفاه، ولكن لم يصمد مشروع المواطنة المثالية هذا أمام أوّل امتحان له والمتمثّل في الأزمة النفطية الثّانية (1985 – 1986) والذي أسفر عن مراجعة الدستور سنة 1989 والتي كانت أقل سخاءً على المواطن.
هذه الأسباب أدّت إلى تغييب المفهوم الفعلي للمواطنة وحتّى مفهوم الدولة القومية، فعوض أن يكونا هذين المفهومين بمثابة الجامع المشترك للجزائري قانونيّا ومدنيّاً، أصبحت عناصر التفرقة هي الغالبة في الممارسات السّياسية والاجتماعية. حيث صار الجزائري يُشخص اثنيا أو مذهبيا، عربيا أو أمازيغيا، مالكيا أو إباضيا، ويتراوح بين وطني أو إسلامي أو ديمقراطي وهكذا... لسبب واحدً وحيد هو أننا نعيش في الألفية الثالثة ولكن بفكر عشائري يتنافى ومبدأ الدولة القومية، ولا نحاول أن ندخل مرحلة المواطنة الحقيقية لنعيش أحرارًا بغض النظر عن الأصل والجهة والعقيدة العرق والجنس. ويمكن القول أنّ السلطة السّياسية لها مسؤولية كبير في تكريس هذه الثّقافة وتشجيعها، عمدا أو عن غير عمد، من خلال انتهاج سياسة شعبوية مصلحية توظّف هذه الخلافات وفقا لمبدأ "فرق تسد". فإعتماد الشرعية الثورية بدل المنافسة الديمقراطية، والمحسوبية وسياسة الولاءات والجهوي، عوامل لا تدعم المساواة وتكافؤ الفرص، وتصعب حصول البعض على المواطنة الكاملة والمتساوية.
وبحسب الناشط الحقوقي والمحامي مقران آيت العربي فإن التحديات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والصناعية والزراعية وغيرها التي تعيشها المجتمعات في القرن الواحد والعشرين لا يمكن أن تواجه بفكر سياسي سلطوي يوظّف التفرقة بمختلف أنواعها: دينية أو عرقية أو جهوية.
ولهذا كان بإمكان السلطة في الجزائر أن تتجنب الكثير من المآسي إذا كرّست بين مواطنيها مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، بحيث لا يعلو أحد عن الآخر إلا بالعلم والمعرفة والعمل والكفاءة، وهذا لا يمنعنا، كمواطنين فعليّين، أن نتمتّع بحريّاتنا الفردية معا في جزائر واحدة ومتعددة في جميع المجالات، ودون ذلك، سنبقى تائهين ودون هوية.
وحتى لا نبقى تائهين، وجب الإعتماد بالدرجة الأولى على تجنيد المواطنة تجنيدًا مستقلاً عن كل الأطراف قصد القضاء على إيديولوجيات الماضي وفرض الشفافية والعدالة وسيادة القانون لا سيادة القوى الخفية، وإنهاء الخطاب المواطني الشعبي الذي يعكس قصورا في فهم المواطنة، ويُكرس مفهوم" المواطنة السلبية والمادية" التي تقوم على تحصيل الحقوق والإمتناع عن أداء الواجبات" مع بعض الإستثناءات لدى فئة قليلة من المجتمع.
يرى مختصون في علم الإجتماع وحقوقيون إنه لا يمكن أبدا تحقيق دولة العدالة والقانون دون مشاركة المواطن مشاركة فعالة وإيجابية وديمقراطية، بإعتبار أن المواطنة تستجد وتتطور باستمرار في فضاء الممارسة والمشاركة، معتقدين أن المجتمعات تعيش في مجتمع يتطور وفي حركية سياسية واجتماعية وثقافية مستمرة والأمة بدورها تتجدد باستمرار، ولهذا فإن المواطنة تتجدد يوميًا بالمشاركة وهي مدخل مهم للاندماج، لحد أنها أصبحت ضرورة وطنية وإنسانية ترتبط بالحريات وحقوق الإنسان تتضمنها الدساتير وتُكرسها المواثيق الدولي.    
وتبقى ممارسة حقوق المواطنة عملية غير مكتملة الأركان ومحفوفة بمخاطرة التراجع عنها والاعتداء عليها دون رسوخ ثقافة المواطنة في الوعي الاجتماعي العام؛ فعملية بناء هذا الوعي العام يتطلب هو الآخر بناء قواعد قانونية تضمن حقوق المواطنة السياسية والقانونية إلى جانب نشر ثقافة المواطنة والديمقراطية، فضلاً عن وجود آلية لرصد أي انتهاكات لحقوق المواطنة وتعبئة الرأي العام للتصدي لها، فالمتابع للوضع يلاحظ بأن هناك غلق وتعطيل لفكرة المواطنة في الجزائر وفشل في الانتقال إلى الحداثة بمعناها السياسي، بسبب قوة الجذب التي لا تزال تمارسها تراكمات تعود إلى القرون من التواجد التركي والفرنسي، كما أن ثنائية الجدل التي يجب أن تكون بين "التخلّف والحداثة" حلّت محلّها ثنائيّة "الأصالة والتغريب".
لو عدنا للوراء للبحث في سيسيولوجيا البنية القيمية للمرجعية المجتمعية الجزائرية سنجد أن هذه البنية هي التي حمت المجتمع الجزائري من الذوبان، رغم الفكر الكولونيالي (قانون الأهالي مثلا) وحمته من الإندفاع نحو التغريب الكلي حتى بعد الاستقلال. ولكن بعض جوانب هذه المرجعية حال دون تطور المجتمع سياسيا وإجتماعيا نظرا للطبيعة التقليدية الإنطوائية لبعض الأفكار كعصبية الإنتماء ورفض الإختلاف مع الآخر مثلا، والتي أصبحت فيما بعد تشكل هاجسا حقيقيا لإستكمال متطلبات المواطنة في شكلها الحديث والمعاصر.

المواطن المستقيل والمتناقض

إن المجتمع الجزائري مجتمع تقليدي إلى حد كبير ومتمسك بالكثير من القيم والعادات التقليدية التي يعيد إنتاجها وبالتالي لا يزال مجتمع يقدس القيم التقليدية وعلى رأسها الأسرة، ولهذا لا يزال يعيش المواطنة بين الماضي والمستقبل وينعكس ذلك على تصرفاته التي عادة ما تتسم بالتناقض والتنافر، بمعنى يبدأ التأسيس لمجتمع لا هو تقليدي ولا هو عصري، مجتمع يتمسك بالقيم التقليدية ويعيد إنتاجها جزئيا وفي نفس الوقت يتبنى قيما حديثة ويحاول تطبيقها في حياته اليومية ويستميت في ذلك فينتج هذا الوضع ما يطلق عليه الباحث السيسيولوجي نور الدين بكيس "المواطن المتناقض"، فهو يرى أن المجتمع الجزائري دخل مرحلة الحداثة من حيث الشكل والتقليدي إلى حد ما من حيث المضمون، لكن كان من الأجدر أن يراجع هذا المجتمع موروثه الثقافي بما في ذلك الديني، الذي يعتبر خطابه من أقوى الخطابات داخل المجتمع الجزائري والذي تستغله السلطة كآليات الضبط باعتبار أن معظم القيم في المجتمع الجزائري كانت تعتمد النص الديني، لأن هذا الأخير، "ينبثق من واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي وتاريخي شديد التعقيد ويتطور بتطور هذا الواقع، كل هذا تعايش معه المجتمع الجزائري قبل أن تغزوه القيم الغربية وتحدث زلزالا بداخله
تعمقت حالة التناقض والتنافر، فهي لم تُصب المجتمع لوحده بل تنقلت لمؤسسات الدولة التي عملت على تأسيس مؤسسات عصرية تعتمد مقاربة الولاء والمحسوبية والقرابة في التوظيف عوض الكفاءة والاستحقاق، وهذا بدوره نقل العدوى للسياسيين الذين أخفقوا في تطوير المشاركة السياسية وبناء مواطنة تضمن قوة النظام السياسي على تجاوز الأزمات التي تعتريه بشكل دوري، بالإضافة للمجال الاقتصادي
لقد أصبح الفساد ينخر كل مؤسسات الدولة من الداخل وذلك بعدما أحاطت السلطة نفسها بنخبة من الإنتهازيين الفاسدين ممن باعوا ضمائرهم من أجل الانتفاع الشخصي على حساب الكفاءات النزيهة كي يسهل توريط تلك النخب في قضايا الفساد، ولعل الثروة النفطية التي أكلت هيبة مؤسسات الدولة خير دليل.
لم تكتف السلطة بذلك بل عملت على تكريس تلك الثقافة في أوساط المجتمعية وتعميمها في المؤسسات لتصبح آلية لتسيير المجتمع بعد أن كان يقتصر على فئات محدودة على مستوى المناصب القيادية، لتنتج لنا في النهاية المواطن المستقيل من الشأن العام والمنسحب من الحياة العامة تدريجيًا.
دفع تعاظم الوعي السياسي الجزائريين لخوض حراك أدى إلى تفعيل المواطنة السياسية في مرحلة هامة، وهو ما فرض مراجعات عميقة في علاقة السلطة بالمجتمع وفي قيم المواطنة وطبيعة المشاركة السياسية وابعادها وانعكاساتها، وأن على إعادة تشكيل المؤسسات السياسية للدولة أو على آفاق المواطنة بمدلولها الإجتماعي السياسي.
تبقى مقاربة النخبة من المفكرين والمثقفين الجزائريين أبرزهم مالك بن نبي فهي الأكثر توازنا وإقترابا من المفهوم العام للمواطنة في الدولة الديمقراطية المعاصرة على أنها تعتبر الحق تحصيل أو نتيجة لأداء الواجب
 نرى عبر هذا الواقع أن المواطنة لم تعد مرتبطة بوطن، أو بدولة وطنية، بل ربطها بالمجموعات الإنسانية، هذه النقطة تنبه إليها، ونبه إليها، الفيلسوف «كانط» أيام الثورة الفرنسية، فكل تحليل يتناول الحرية والحقوق يفترض في الفرد الاستقامة». وتبعا لذلك «لا مواطنة مع الدناءة والخسة والكذب والخيانة باعتبار أن المواطنة هي الفضيلة والصدق والأمانة بحسب عبد الله العروي».
 إن الفرد المواطن بالمعنى الحديث هو من يساهم في البناء السياسي وبناء القوانين لأن «من لا يهتم بالسياسة والقانون لا يمكن أن يكون مواطنًا، وإنما إنسانًا سلبيًا أو بمثابة فرد غير صالح يقوم فقط بمطالبة الدولة بفعل أشياء عاجزٌ هو عن القيام بها”.
وبين هذا وذاك أضحت المواطنة في الجزائر.. جمود إرث ثوري عطل حركة الحداثة والتجديد.