د. باهرة الشيخلي


ينظر العراقيون إلى رئيس وزرائهم مصطفى الكاظمي على أنه أضعف رئيس حكومة جاء بعد الاحتلال سنة 2003، ويوافقهم في هذا محللون أميركيون. لكنّ هؤلاء المحللين ينتظرون أن يستفيد الكاظمي من الفرصة التي أعطتها له واشنطن، بينما العراقيون لا يفرقون بين الكاظمي وبين كل من جاء بهم الاحتلال، من جهة الولاء للعملية السياسية التي يطالبون بتغييرها، والذين بدأوا يتهكمون على إجراءاته ووعوده التي لم يقوَ على تحقيق واحد منها.

فإذا كان من سبقوه قد أتخموا العراقيين بـ"سين – سوف التسويف"، فإنه قد أتخمهم حدّ التجشؤ باستعماله وعودا قبل كل جملة يتفوه بها: وعد ألا يلعب العراق دور الوسيط بين طهران وواشنطن.. وعد أن يخضع قتلة الهاشمي للقضاء، ووعد ألا يسمح بالتدخل التركي في العراق، إلى غير ذلك من الوعود التي لم يتحقق أيّ شيء منها.

كان الكاظمي، في مفاوضات واشنطن، مستمعا جيدا لبرنامج أميركا، كما لو كان تلميذا مطيعا، فأميركا لديها إستراتيجية معدة، سلفا، جرى إعداد برامجها وفقا لقياسات مصالح واشنطن وعلى الوفد الضيف أن يصغي فقط، وإذا أراد أن يفاوض فإن المدى المسموح به يقتصر على سبل التنفيذ فقط.

إن حكومة الكاظمي مثقوبة "السيادة" من الجانبين الأميركي والإيراني، فهي لن تكون، في أفضل حال، إلا وسيلة مطيعة لهذا السيد وذاك المرشد ولا تملك لنفسها إرادة وليس لها من القدرات إلا الإعلانات الإعلامية والتصريحات الصحافية.

إيران تريد انسحاب القوات الأميركية من العراق وتستخدم ميليشياتها المتنفذة في العراق للضغط بهذا الاتجاه، وقد ذهب الكاظمي إلى واشنطن آملا أن يحصل على وعد من الإدارة الأميركية حول هذه النقطة تخلصا من الضغط الذي تمارسه عليه القوى السياسية الشيعية والميليشيات الولائية.

عشية زيارته إلى الولايات المتحدة عقد الكاظمي اجتماعات مهمة عديدة في بغداد، أولها في مقر هادي العامري مع قادة الفصائل المسلحة، الذين حضروا، باستثناء قادة عصائب أهل الحق، وشددت هذه الفصائل على ضرورة الطلب من الجانب الأميركي سحب قواته من العراق وإلا فإنها سوف تصعد من العمليات العسكرية، بل ذهب بعضها إلى أكثر من ذلك عندما أبلغ الكاظمي أن الاستهداف سيشمل حكومته في حال طلبه بقاء هذه القوات في العراق.

وفي اليوم الثاني عقد اجتماعا مع قيادات الكتل الشيعية حضره الجميع، بمن فيهم المالكي، الذي لا يحضر عادة الاجتماعات التي يدعو إليها الكاظمي، وبعد أن شرح الكاظمي خطورة المرحلة وحاجة العراق إلى هذه القوات في المرحلة الحالية، قال له الجميع لا بأس بذلك، مع ضرورة أن يكون هناك جدول زمني لانسحابهم، كما يجب أن يكون هناك تنسيق للقوات الأميركية لتحركاتهم على الأراضي والأجواء العراقية مع الحكومة العراقية.

وبذلك أخذ الكاظمي الضوء الأخضر ببقاء القوات، لاسيما وأن مطلب الكرد والسنة هو بقاء هذه القوات، وقد أبلغوا الكاظمي مسبقا بذلك، وبعدها بيوم واحد، زار قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قاآني بغداد واجتمع مع الكاظمي وأبلغه رسالة إيرانية إلى ترامب مفادها رفع العقوبات عنهم وإنهاء التوتر، وبذلك فهم الكاظمي أن مطلب الفصائل المسلحة كان للضغط عليه، وتعهد الكاظمي لقاآني ببذل ما بوسعه لتحقيق هذا المطلب من الجانب الأميركي.

لكن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أغلق الباب بدعوته في المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره العراقي فؤاد حسين، إلى عدم التركيز على بحث سحب القوات الأميركية من العراق، مشددا على عبارة “ليس لدينا ما نعلنه بالنسبة إلى الأرقام حول سحب القوات من العراق، وأحث الجميع، بينما نتجه لعقد الحوار الإستراتيجي، ألا يركزوا على هذا الموضوع، بل على الجهود المشتركة” وأضاف “إن سيادة العراق تعتمد على استمرار الالتزام الأميركي بدعمه وتقديم المساعدة له ونحن مصممون على ذلك”.

وعدّت القوى الولائية هذا الكلام مسعى أميركيا لحرف مسار الحوار الإستراتيجي عن هدفه الحقيقي والمتعلق بوجود القوات الأميركية، وهو ما يتناقض مع مطالباتها، إذ حذّر تحالف الفتح من أي إملاءات تفرضها واشنطن على الكاظمي وحكومته، مؤكدا أن “أغلب الكتل السياسية العراقية سترفض هذه الإملاءات والشروط، التي تكبل العراق من بوابة الاقتصاد وتجعل قراره السياسي رهينة لواشنطن”.

 إن نوعية الحفاوة في الاستقبال واللقاءات السياسية والاقتصادية، التي وفرتها الولايات المتحدة للكاظمي خلال زيارته لأميركا، دلالة واضحة على أن واشنطن تحاول كسبه إلى جانبها بالرغم من معرفتها أن قدرته وإمكانياته ضعيفة في مجابهة الميليشيات والأحزاب السياسية الموالية لإيران،  وأن ما تقدمه واشنطن، اليوم، من مساعدات مالية وعقود وتفاهمات تجارية لمشاريع مستقبلية، يحمل أبعادا وإشارات سياسية لإيران أن العراق سوف يبقى تحت سقف أميركا ولن تتخلى عنه وهي في طريقها إلى إصلاح الخطأ الإستراتيجي، الذي ارتكبته إدارة أوباما في تقديم العراق لقمة سائغة  لملالي إيران، وكذلك إشارات للصين إلى أن أميركا ستكون الشريك الاقتصادي للعراق، وفي الوقت نفسه، فإن واشنطن تصرّح علنا، على لسان رئيسها دونالد ترامب، بنيتها تخفيض العديد من القوات العسكرية داخل العراق وهذه مبادرة ومحاولة لتقليل الضغط الذي يواجهه الكاظمي من الميليشيات في أن يصل إلى اتفاق في إخراج القوات الأميركية.

يرى الكثير من العراقيين أن واشنطن بوضع آمالها في سلة الكاظمي إنما تراهن على الحصان الخاسر، فهو لا يقوى على مواجهة الميليشيات والقوى السياسية الموالية لإيران التي استبقت زيارته بهجمات مكثفة على المواقع الأميركية في العراق وتنفيذ عمليات اغتيال ضد المتظاهرين العراقيين بلغت 19 اغتيالا خلال أسبوع واحد.

إذ بدأت باغتيال الناشط تحسين أسامة الجمعة الـ14 من أغسطس الماضي وقتل ناشط مجهول الهوية داخل سيارته في محافظة البصرة، بعد يومين من ذلك، والناشط ياسر كاظم في بغداد، والذي فارق الحياة الاثنين الـ17 أغسطس أيضا، واغتيال الناشطة الدكتورة رهام يعقوب وصديقتها مع إصابة اثنتين أُخريين، واختطاف الناشط المصور سيف علي، ومحاولة اغتيال الناشط فلاح الحسناوي، الذي أصيب بجروح وقتلت خطيبته في البصرة في الـ19 من الشهر نفسه.

كما تم استهداف منزلي الناشطين محسن الزيدي في محافظة ذي قار بعبوة ناسفة، والناشط أيوب الخزرجي بالرصاص في بغداد، فيما فشلت 7 عمليات اغتيال أخرى استهدفت الناشطين وسام الذهبي وعلي سلمان الجابري في محافظة ذي قار، وعباس صبحي ولوديا ريمون وفهد الزبيدي والمهندسة رقية الدوسري في البصرة، والناشطة المسعفة انتصار وهاشم الجبوري وزيدون عماد في بغداد.

وآخر ما جرى كان في أول ليلة من شهر محرم الحالي، إذ نجا من محاولات اغتيال ميليشياوية الدكتور عدنان الكهار والمتظاهر محمد جابر والدكتورة هالة الشمري لدى عودتها من التشييع الرمزي للمغدورة البصرية الدكتورة رهام يعقوب، والذي جرى في ساحة التحرير ببغداد، والدكتور محمد المنصوري.

هناك من ظنّ أن الحرب الأهلية ستندلع في العراق، إذا بقي الوجود الأميركي في العراق، وإذا لم يستطع الكاظمي إخراج القوات الأميركية من العراق، وهذا ظنّ يفسده إجماع العراقيين على ثورة تشرين واستعدادهم للتضحية بحياتهم من أجل تحرير العراق من عصابات العمائم الوضيعة وأولاد إيران الملالي وميليشياتهم المجرمة الفاسدة، الذين لم يفعلوا شيئا سوى بعض هجمات على المنطقة الخضراء، التي تضم السفارة الأميركية بالكاتيوشا، التي سقطت قذائفها في مساحات خالية.

يبدو أن الكاظمي ماض في مواجهة تغول أحزاب السلطة وميليشياتها. فقد شهدنا أنه اتخذ إجراءات وقرارات عديدة في مواجهة التغول الإيراني والأحزاب والميليشيات الولائية، ومنها مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة لرموز سياسية فاسدة، منهم أصهار رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي وبعض النواب والمسؤولين السابقين.

لكن غزله المتواصل للميليشيات وقياداتها يجعل الريبة تسكن قلوب العراقيين الذين، لكثرة وعود السياسيين، التي لم تتحقق منذ 2003 إلى الآن، باتوا لا يثقون بأيّ وعد يطلقه سياسي، خصوصا من الذين مازالوا متمسكين بالعملية السياسية والجالسين تحت خيمتها. فهل سيبقى اسم الكاظمي عند العراقيين وعودا فقط أم أنه سيمحو هذه التسمية بأفعال يلمس العراقيون نتائجها؟