عادل سعد


على رصيف من ارصفة الفقراء ، وفي اغلب الصباحات الصيفية والشتائية وخليطهما من القيظ والدفء ، كانت نعيمة ام اللبن تتصدر نهارات مدينة (سوق الشيوخ ) ،سيدة لا تضاهيها في الطول امرأة اخرى ولا في النحافة ايضا ، ولو كانت فرصة عمرها في غير زمنها انذاك ، الخمسينات من القرن الماضي ، وفي اي بلد يهتم بالنحافة لضمها صناعو الازياء الى طواقم فتياتهم العارضات المفضلات ، بل ولكانت ندا لعارضة الازياء البريطانية (تويكي) ، صاحبة اللقب الساخر( قلم الرصاص) لرشاقتها المفرطة .

كانت نعيمة محاورا على درجة من النباهة ، تأتي من الفجر حسب كل المعلومات لكي تختار المكان الاكثر حضورا ، توزع الابتسامات وبعض الطرائف (الحرة) بينما تغطي بقية بائعات اللبن وجوهن مستغرقات بالضحك في حين تظل هي مخلصة لهذا الحضور الطرائفي المكشوف وقد بات معروفا ان اليوم الذي تغيب فيه نعيمة عن اطلالتها (التجارية) يكون الشارع قد اصيب بالكأبة فلا ضجيج ولا تعليقات ، ولا ضحكات ولا احد ( يتحرش) لتمتلئ الاجواء طراوة

لقد كانت مايسترو يقود رواد ذلك الشارع الى الانشراح ، وحين تسكت بعد اطلاقها النكات تعود (امهات) اللبن والزبدة للترويج لبضاعتهن بينما تكون نعيمة قد اكملت بيع بضاعتها الا من قليل تبدأ توزيعة مجانا على المارة ثوابا لأخيها الذي قتله لصوص في ناحية العكيكة ، هكذا تقول الرواية ، وهكذا تكون قد افرغت (جدر) الفافون الكبير الذي تحمله على رأسها مسافة طويلة ، ويكون عدد من المارة قد استمتعوا ب(طاسات) من اللبن او قطع زبد مجانا بعد ان تحصل على مبلغ معين من مبيعاتها ،وكأنها لا تبحث عن فائض قيمة لأرباحها ثم تنفض ملابسها وتلقي تحية الوداع اليومي على الجميع في حركة مقوسة من يدها اليمنى .

المشكلة لدى الذين يعرفون نعيمة انهم اختلفوا على جنسها، اي بالتسمية الحديثة (جندرها) ، تماما كما اختلف فلاسفة ومازلوا مختلفين على جنس الملائكة .

* هناك رواية تقول ان نعيمة امرأة كاملة الانوثة ولامجال للتشكيك في ذلك ، وان مايشاع ليس سوى معلومات مضللة نتيجة خصومات لتشويه مجالها العائلي ،اما الرواية الثانية فتفيد انها اصلا رجل وقد البسته امه ملابس الفتيات الصغيرات وهو في السنوات الثلاثة الاولى من عمره وجعلته يختلط معهن بعد مقتل اخيه وهكذا تطبع على تصرف النساء ثم سعت العائلة تحت وطأة الاضطرار الى تغيير سكنها بعيدا عن قريتها وعشيرتها ، لأن حالها يجلب العار.

على اي حال لم يصل المختلفون بشأن جنس نعيمة الى اتفاق لأن الامر يحتاج الى معاينة (موضعية) لا يجرأ احد عليها .

كانت نعيمة قوة جذب لبائعات اللبن الاخريات ، يتسابقن لسرد همومهن عليها ، قصص انتهاكات تتسلل كما يتسلل خريرالمطر من سقوف اكواخ الفقراء ، زوج متسلط ادمن الأهانات لزوجته وتهديدها بالطلاق يوميا لأتفه الاسباب ، اخرى اجبروها على الزواج من ابن عمها الذي يكبرها بثلاثين سنة ، ثالثة جربت كل انواع السحر لمنع زوجها من الزواج بثانية ولكن لم تفلح ، اخرى تشكو من مرض نسائي شديد الوطأة لكنها تضمر ذلك لأنها تجد في مرضها فضيحة ، اخرى انجبت اربع بنات وزوجها يريد ولدا يحمل (اسمه )، اخرى تعرفت على شاب خلال بيعها اللبن وهي تنوي الهرب معه – هكذا المتسرب من معلومات – بعد رفض اهلها له عندما تقدم خاطبا ، الخلاصة لا تخلو واحدة من قصة تستجلب الحزن والغم.

كان المشهد النسائي زاخرا بنشر الغسيل المعتم ، وكان البعض يدافع عن التصريحات التي تدلي بها نعيمة بوصفها رصد لا يخلو من التضامن مع الضحايا ، وهناك من يقول أنها تتلقى دروسا في ذلك ، ويشجعها على رعاية مصائر تلك النسوة، بينما يؤكد اخرون ان ماتبثه نعيمة اشاعات تدافع به عن وضعها الجسدي المختل والا لماذا لا تتزوج ، ثم لماذا (الفوطة) المحكمة التي تغطي اغلب معالم وجهها .

على اي حال حين انتقلت الى مدينة الناصرية وبدأت مرحلة الكتابة برصيد ثقافي يحبو كانت شخصية نعيمة حاضرة في ذهني بوصفها حالة ( نادرة ) ينبغي تسليط الضوء عليها ، وخططت لذلك على اساس سرد قصصي لرواية تكون بطلتها ، وكان الضجيج المعرفي للحرية التي تنادي بها الاديبة الفرنسية سيمون دي بوفوار يلح علي في التقصي عنها ، بل انني في احد الايام ذهبت الى سوق الشيوخ للبحث عنها في ذاكرة تلك المدينة على امل ان اجد المزيد من المعلومات ، ولكن تبين لي ان ذاكرة (السوق) قد حذفتها تماما .

هل ماتت نعيمة موتا طبيعيا ، ام تم قتلها لغسل عار عشيرتها بذريعة لوثة (التخنث) التي طبعتها ، وهذه حلول شائعة في الاوساط العشائرية عراقيا بينما يتصدر الذكور مشهد الحضور المنزه ظاهريا من اية خطيئة .

لا شك ان نعيمة ام اللبن كانت صندوقا اسودا بكل مايعني هذا التوصيف من دلالة ، ومع تعدد الصناديق السود العشائرية تظل النميمة السرية بيانا برسم الادلاء اليومي .