د. باهرة الشيخلي


الكثير من الذين انخرطوا في العملية السياسية بعد احتلال العراق وكان لهم ماض نزيه ادعوا أنهم انخرطوا ليعدّلوا الميل فيها ثم ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم منغمسين في فسادها.

الكثيرون يظنون أن الخلل في الشخص الذي يتولى المسؤولية في العراق، وحين يُغيّر هذا الشخص ويأتي شخص آخر، حتى لو كان على قدر يسير من الكفاءة والإخلاص، ستنصلح الأمور، لكن هذا الشخص يفشل لأن الخلل ليس فيه وإنما في تركيبة النظام نفسه.

أنجز الاحتلال الأنجلو – أميركي للعراق القسم الأول من مراميه، إذ أتم الغزاة المهمة على أفضل وجه وعلى نحو نموذجي. حلّ الجيش العراقي والمؤسسات الأمنية والثقافية والإعلامية وتزامن ذلك مع حملة دموية لتصفية الكفاءات العلمية وتدمير البنى الصناعية والإنتاجية، إلى جانب ما سمّي بقانون اجتثاث البعث الذي أقصى الآلاف من الأكاديميين والخبراء والكوادر العاملة في دوائر الدولة والقطاعات الأخرى. وأغلبهم، كما ثبت بعد ذلك، لم يكونوا بعثيين منظمين.

شمل القسم الأول من مشروع الاحتلال فتح أبواب البلاد على مصراعيها أمام جيوش الوكالات الاستخبارية الدولية، وشركات الأمن المشبوهة ومراكز المرتزقة. وسقط جراء العنف الدموي والفتنة الداخلية عشرات الآلاف بين قتيل وجريح، وعهدت الإدارة الأميركية تنفيذ القسم الثاني (موت العراق) إلى الجواسيس من الأحزاب والميليشيات والمرتزقة ممن تولوا السلطة في البلاد عبر مجلس الحكم الانتقالي البغيض والحكومات الست المتعاقبة، التي أجهزت على قطاعات البلاد الأكاديمية والتعليمية والكفاءات الاقتصادية والصناعية والزراعية، وفق منهج واضح الأهداف والغايات أوصل العراق إلى مرحلة زوال الدولة وإفلاسها.

من هنا بدأ الاعتلال في النظام الجديد.

في حديث مع العميد الأسبق لكلية الإعلام في جامعة بغداد الدكتور عبدالرزاق الدليمي، قال لي: إن النظام واختيار الأشخاص المتوافقين معه صنوان، ولذلك لا يمكن لنظام أن يحقق مآلاته ما لم يتم اختيار العناصر المنسجمة مع حيثياته، وهذا التصور يمكن أن يشكل قاعدة تعتمدها الأنظمة، لكن هذا لا يمنع من وجود حالات قد تعدّ شاذة إلا أنها منتشرة، لاسيما في تجارب العالم الثالث، حيث يتم ترتيب النظام ليناسب أشخاصا بعينهم. ثم، لاحقا، يتحول الموضوع إلى مأسسة نظام يبحث عن الأشخاص القادرين على التعايش في بيئته. يبدأ نظاما هجينا، ثم يتحول إلى نظام معتمد له قواعده التي يجب أن تراعى عندما يتم التفكير في اختيار من يعملون معه.

الموضوع إذن، لا ينحصر فقط في طبيعة النظام أو كفاءة الأشخاص. هناك العديد من التجارب التي تدل على وجود هذا الاعتلال بين نظام جيّد وأشخاص غير أكفاء أو العكس، وفي الحالتين فإن مصير النظامين هو الفشل.

الكثير من الذين انخرطوا في العملية السياسية بعد احتلال العراق وكان لهم ماض نزيه، ادعوا، إن صدقا أو كذبا، أنهم انخرطوا ليعدّلوا الميل فيها ويصلحوها ثم ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم منغمسين في فسادها.

يلخّص الأمين العام للمشروع الوطني العراقي الشيخ جمال الضاري، في كلمة ألقاها بمؤتمر في موسكو يوم 15 فبراير الماضي، المشكلة في أن النظام السياسي الحالي لديه مشكلة مع الجميع، موضحا أن النظام الحاكم “استخدم العنف على الشيعة اليوم كما استخدمه على السنة والأكراد، فهو لم يخدم العراق ولم يلبّ آمال العراقيين”.

وفي حديث له مع قناة “فرانس 24” العام الماضي، قال الضاري إن “على المرجعية في النجف الاستماع إلى صوت الشعب الرافض لهذه العملية السياسية، بل والدستور الذي كتب بصيغة طائفية”.

وأضاف أن “العراقيين خسروا مئات الآلاف من الضحايا نتيجة الاحتلال الذي أسس هذا النظام السياسي الطائفي”، موضحا أن “الاحتلال الأميركي سلّم العراق إلى إيران التي تتحكم منذ 2003 في العملية السياسية بالكامل”، ولافتا إلى أن “العراقيين أصبحوا في حالة وعي بشأن الأحزاب التي تسلمت الحكم بعد سنة 2003 والتي أغلبها ذات تبعية خارجية”.

ويعتقد الضاري أن “الحل يأتي عبر مؤتمر دولي جامع، وعلى الولايات المتحدة أن تتحمل مسؤولياتها في إعادة البلد إلى وضعه الطبيعي”، واعتقاده هذا يعني أن النظام هو المشكلة، وأنه يجب استبداله بنظام يقوم على المواطنة لا على المحاصصات الطائفية.

ونقلت صحيفة “مدارات الثورة”، الموجهة إلى المتظاهرين، عن الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد قوله “إن الفساد فعل إجرامي لا أخلاقي وخيانة للأمانة المستودعة من الشعب، وإن ضرره يكون أشد جسامة في أوقات الأزمات، كما في الوقت الحالي، الذي يكابد فيه العالم جائحة كوفيد – 19. والتعامل مع هذا الفايروس يخلق فرصا جديدة لاستغلال ضعف الرقابة، حيث يتم تسريب الأموال بعيدا عن الناس في أوقات هم أحوج ما يكونون إليها”.

وعلقت الصحيفة على قول غوتيريش بأن الأمر مضاعف ربما المئات من المرات في العراق، حيث تداعيات الفساد وهدر المال العام وتهريب العملة، ترافقت هذه الأيام مع تفشي الوباء وشح الموارد المالية، فترك ذلك كله آثاره المدمرة على حياة الناس.. الفساد مُطنب في بلدنا. ولا يزال يتفاقم من دون إجراءات فاعلة، فنسمع “جعجعة ولا نرى طحينا”.

وترى الصحيفة أن المطلوب الآن ليس حديثا إنشائيا بنهايات سائبة، بل خطوات وإجراءات ملموسة تقود البلد إلى الثورة والخلاص من حكم الفاسدين الذين دمروا البلاد وأفقروا العباد.

إن هذا جزء بسيط من الإجماع على فساد النظام في العراق وعدم صلاحيته لبناء بلد متقدم مستقر، كما أنه يمثل الإجماع على ضرورة تغييره، فهو يعتمد في حماية نفسه على ميليشيات لا تقيم وزنا لقانون ولا تحترم أنظمة دولة. وقد انتشر في الأول من ديسمبر الحالي تسجيل صوتي سربته منصات تابعة لفصائل مسلَّحة موالية لإيران لمكالمة هاتفية لقيادي بارز بميليشيا “كتائب حزب الله”، ويشغل في الوقت نفسه منصب معاون قائد “الحشد الشعبي” في الأنبار ويدعى أحمد نصرالله، يهدّد فيها بقطع يد قائد عمليات الجيش العراقي في محافظة الأنبار الجنرال ناصر الغنام بسبب إصدار الأخير أوامر بإنزال الأعلام والرايات والصور المنتشرة والإبقاء على العلم العراقي فقط.

وفي مقال نشرته نيويورك تايمز في 6 أغسطس الماضي، قالت الصحيفة إن من دعم هذه الميليشيات ومكّنها هو الطبقة السياسية الجديدة التي لا تسعى إلا إلى الثراء. وعندما تولى عادل عبدالمهدي الحكم سنة 2018، وسط ترحيب به كمصلح محتمل حاول ضمّ الميليشيات إلى الدولة لكنها فاقته براعة وسيطرت عليه. وقد تضمنت حكومته أشخاصا لهم ارتباطات بأحد أسوأ شبكات الكسب غير المشروع التي ابتلت البلاد بها.

وهذا يؤكد أيضا أن الخلل في النظام برمته لا في الأشخاص الذين يتولون المسؤولية فيه، فاسدين كانوا أم نزيهين.

وتحمّل الصحيفة في مقالها الولايات المتحدة مسؤولية اعوجاج النظام العراقي وفساده وعدم صلاحيته للبلد، فهي تقول “طالما كان الفساد في سجل الدبلوماسية الأميركية يحمل معنى مبهما: فهو مستهجن في العلن لكن يتم غض الطرف عنه في الواقع، بل ويعد شرا لا بد منه. إذ للولايات المتحدة تاريخ طويل في دعم الكليبتوقراطيين (الحكام اللصوص)، الذين طالما كانوا بجانب أي منافس سياسي استراتيجي. إلا أن ثمن هذه الصفقات، الذي عادة ما يكون بالدم، قد أدى إلى إعادة تقييم الأوضاع. “الفساد ليس معضلة سياسية أساسية فحسب، بل هو أكبر مسبب للمشكلات الأمنية التي يتوجب علينا مواجهتها”.

في كل وزارة حكومية يكمن الفساد في اتفاقيات غير مكتوبة مع أحد الفصائل.. الصدريون يملكون وزارة الصحة، ومنظمة بدر طالما سيطرت على الداخلية، بينما يسيطر تيار الحكمة على النفط. وعادة ما يواجه بعض القادمين الجدد صعوبة في التأقلم مع هذه الأوضاع، إذ أن أحد الوزراء التكنوقراط السابقين ممن أمضوا عقودا في الخارج، وهو الدكتور علاء العلوان، اكتشف حين تسلّم منصبه أن الوزارة تتعاقد لشراء لقاحات بقيمة 92 مليون دولار، لكنه وجد طريقة أخرى لشراء اللقاح نفسه بقيمة 15 مليون دولار، وقال “عندما قمت بذلك، تم شنّ حملة ضدي”.

لقد كان يحاول أن يسدّ الفجوة بين ثروة العراق النفطية والنظام الصحي المتهالك، بينما كان معارضوه مهتمين بمصالحهم الحزبية فقط. ووجد الوزير في النهاية أن هاتين الفلسفتين لا يمكنهما التماشي معا، لذا قدّم استقالته من منصبه.

الكثيرون يعدّون “الفساد السمة الجديدة الثالثة للسياسة العراقية.. التحدث عنه يعرضك أنت أو أفراد عائلتك للقتل”، ولذلك فإنهم حين يتحدثون إلى الصحافيين يطلبون عدم ذكر أسمائهم، لأن بنادق الميليشيات التابعة للفاسدين ستكون لهم بالمرصاد.

خلاصة القول إن الوضع في العراق لن يستقيم ولن يستقر أو ينصلح إلا بإزالة نظام المحاصصة وإقامة بديل وطني يشرع في إصلاح ما أفسده النظام الذي لديه مشكلة مع جميع العراقيين، كما قال الضاري، وكما أدرك ذلك شباب ثورة أكتوبر، الذين يصرون على مواصلة احتجاجهم رغم القمع الذي يواجهونه من سلطة الفاسدين.


رئيس تحرير وكالة الحدث الاخبارية