علي السوداني


يحدث هذا منذ نحو عشرة أيام بعد أن استضافت شرفتي المزججة بقّةً من الصنف الذي يعشق قرصَ صيوان الأذن والطنين الملحاح حولها . 

لا تفسير لديَّ حتى اللحظة ولا كشف للسر الكبير الذي يجعل تلك الحرمسة اللعينة أن تختار غضروف الأذن اليابس وتفضّلهُ على الخدود التي تغنى بها الشعراء وأداها مطربون ومغنّون بادوا ثمَّ عادوا ، وأكاد أتذكر الليلة أحدهم وقد انفلت من ختمة السبعينيات بطقطوقة " فرط الرمان خدوده وعيونه الحلوة السودة " ليجيبه آخر من نفس الروزنامة بأغنية " أبو خد مشمشة خلّاني ومشى " والحقيقة هي أنني ليس بمقدوري الآن استعادة الإسمين الهاربين من الذاكرة ، لكن بمستطاعي القول أنَّ الثاني كان يشيل على وجهه المتفّح ، عينين حولاوين وثمة حفريات كثيرة شملت السطرين التحتاني والفوقاني من صف الأسنان التي هي بمثابة خطّ الدفاع الأول عن مسألة الحضور والمقبولية الشعبية .

لم أكترث أو أنزعج كثيراً من وجود هذه الكائنة المسكينة بشرفتي ، وتركتها حرةً سعيدةً في مصّ ما بقي من دمٍ بصيوان الأذن وبشحمتها الفاترة ، لكنني لم أستطع غض النظر والسمع عن الصوت المزعج الذي تحدثه أثناء عملية غرز أبرتها وشفط الدماء الساخنة .

قد أكون عرفتُ من الأستاذ غازي معلّم الأحياء المتوسط بأن الطنين الذي تصدره تلك الحشرة البائسة هو بفعل حركة جناحيها قبل الهبوط وليس هلاهل تخرج من فمها مثل صفارة انذار .

وعلى ذكر صفارات الحرب يسعدني أن أخبركم بأنني كنت قد سمعتها مهيبةً رهيبةً مرات كثيرات منها بحرب تشرين من السنة الف وتسعمائة وثلاثة وسبعين ، ثم زخاتها أيام حرب إيران في الثمانينات وبعدها عند باب التسعينيات المصيبة ، وآخرها هنا في عمّان خلال الجولة الأولى من الحرب القوية ضدَّ فايروس كورونا الثقيل .

لم أفكر أبداً بقتل البقّة الحرمسة الناموسة بنت الناموس ، لكنني اهتديت إلى حلٍّ رائعٍ يرضيني ويرضيها ويرضي الله والعباد ، لذا قمتُ على طولي وفتحت نافذةً كبيرةً كي أمنح ضيفتي المتعبة فرصةً للهروب وهناك ستجد حاوية الزبل في أخير الزقاق ، مسورةً بجمهرة جيدة من العتاوي والقطط السمان ، وتجلس على باب رزق طيب حلال . لم تستغل الغبية المطية تلك المنحة الرحيمة وبقيت تحوم في الشرفة .

شخصياً لم يعد بمستطاعي احتمال الكثير من هذا العبث العشوائي الذي وقع على أذنيَّ ، لذلك سأنطر الليلة رفيفها وطنينها على مقربة من شاشة التلفزيون وأشيل نعالي بهدوء وأتقدم صوبها ماشياً على رؤوس أصابعي ، قاطعاً النفس مثلما كنتُ أفعل في درس الكلاشنكوف الأول ، وقد أصيبها بمقتلٍ سريعٍ لا يكلّفها وجعاً كثيراً ، فتنجو هي وأنام أنا بسلام .