رباح آل جعفر


‏في كتابالإمتاع والمؤانسةيحصي لنا أبو حيان التوحيدي مغنيّات بغداد أيام العباسيّين بأربعمائة وستين جارية.. وكان زرياب البغدادي أوّل سفير للأغنية العربية إلى بلاد الأندلس. لم يكتف بتعليم أوربا الموسيقى والأنغام، إنما كان يعلّم أهلها آداب الأكل بالشوكة والسكين، وكيف تضع السيدات الجميلات، المناديل المعطرة الملوّنة، المصبوغة بأحمر الشفاه في جيوبهن.

‏والأديب الانكليزي سومرست موم، والأديب الإيطالي ألبرتو مورافيا، والأديب الفرنسي أندريه جيد، والأديب الأميركي وليام فوكنر، لم يقرأوا من الأدب العربي صفحة واحدة غير كتابألف ليلة وليلة”.

‏والشعراء كتبوا دواوين من الشعر تتغزل بالقمر. والعشاق بالغوا في تشبيه حبيباتهم بالقمر. وهناك حكاية تقول: إن برج بابل أسقطه القمر!.

‏وعندما أقسم روميو أنه سيحفظ الحبّ قال لجوليت: أقسم بالقمر الجميل الذي يشبهك. ثمّ اكتشف العلماء أن القمر تراب بلا ماء، وأن الكلاب لا تنبح، إلا عندما يشع نور القمر، الذي يسهر في ضوئه الشعراء، والعشاق من المجانين!. 

‏وكان صديقنا الشاعر الرقيق قيس لفتة مراد يتلذذ مرة، ويتأفّف ألف مرة على هاتيك اللآلئ المتناثرة في الليالي المجنونة القمراء، والقبلات العميقة، وهو القائل: (ولا مَرهمْ بعد يَرهم ولا كَعدات كَمريّة).

‏وفي ليلة مقمرة قصدت مجلس شيخ بغداد الدكتور حسين علي محفوظ، وحين أدركنا النعاس، قلت لمحفوظ: إن الشاعر سعدي الشيرازي عاش مائة سنة، ولمّا سُئل عن عمره الطويل كان جوابه: أحببتُ كثيراً، ولا شيء كالسّهر يطيل العمر، فالمحبّون لا يعرفون النوم لأنهم لا يعرفون اليقظة. يومها ابتسم محفوظ ملء شفتيه، وأنشدني قول عمر الخيّام: فما أطـال النــوم عـمراً.. ولا قصّر في الأعمار طول السّهر!.

‏وفي بيت محفوظ رأيت العجب. وجدت مكتبة فريدة عصر، وفريدة دهر، لم تقع على مثل خزائنها عين إنسان، ولم تخطر على قلب شيطان.. من نوع الكتب التي كانت تأتي على البغال من بومباي، ومن بولاق!.

‏وفي السنوات الأخيرة من حياته، أحزنتني أحوال صديقنا الأديب يوسف نمر ذياب.. كان يستعين بالحبوب المنومة على الأرق، ويقف أمام نافذة صغيرة، يفتحها وينظر في السماء طويلاً، ويقول كلاماً يشبه الندم: يا قمر، يا قمر.. أنا قتيل شفتيك!.

‏وكان صديقنا الشاعر البديع صفاء الحيدري يحلف لنا إذا اختلفنا في مسألة بقوله: (حلفتُ بالسّمر وبالقمر) فنصدّقه في غراميّاته ونحن نضحك!.

‏وقرأت لأديب ايطاليا ألبرتو مورافيا على لسان رجل مشكلته أنه لا يعرف كيف يحدد النسل، فيقول: نحن العشاق الفقراء غير قادرين على السهرة، فماذا نفعل؟ إننا ننام في ساعة مبكرة من الليل.. ويجيء الأولاد!.

‏وفي الليالي القمراء أمضى الشاعر حافظ جميل أحلى غرامياته، وغنّى يوسف عمر أجمل مقاماته، وقال الجواهري وقال: يا سامرَ الحي بي شوقٌ إلى السَمَرِ. ومن دجلة انطلقت مغامرات السندباد، وعلى ضفافها ازدحمت الأحاديث المليحة كالعطر، ومدامع العشاق، وأكواب الصهباء، وعيون الظباء!.

‏ويوماً كانت أمسيات بغداد شديدة الزحام، وليلها كثير السهر. فأين من عينيّ هاتيك الليالي يكون البدر تماماً، والنوم حراماً، وأين ذلك البريق؟!. 

ثمّ اختنقنا بالعَبَرات، وتلاشينا في الضياء.. فاتبع أية نجمة يقظى في السماء تدلّك على مجالسنا!.