ثائرة اكرم العكيدي 


كثيرا ما نعبث بأوراق الماضي وخاصة ادا كان الاجواء استثنائية مثل اجواء شهر رمضان الكريم لنتصفح صوره وذكرياته ولتأخذنا إلى أيام خلت واوقات جميلة عشناها مع رفقة طيبة أو شخص عزيز اوجار انيس فيجتاحنا الحنين وتهزنا الأشواق وندخل في حالة تعلو على الواقع، ونبدأ في وصف جمال تلك الأيام قائلين الله على ذلك الزمن الجميل.

يأنس الإنسان بالعودة إلى الماضي، فيخلع عليه ثوب الطهر، فينقيه من الضغائن ويبقي على الجمال المخزّن في الذاكرة على شكل صور يسترجعها متى ما أحس بألم الحاضر، أو ببؤس المستقبل، ويتناسى تماما أنه عاش تلك الأيام بحنين إلى ماض آخر، بحثا عن متنفس لآهاته وزفراته.

في صغري لا أذكر أن شيئاً على مائدة الإفطار أثار فضولي  أكثر من والدي عندما يقوم بنفسه بتجهيز الشراب المختلف الالوان والمطعم بنكهة البرتقال والليمون والموز لا ازال اذكر ذلك الشراب الذي ليس له وجود في اسواقنا الحاليه كان طعمه رهيب وايضا اتذكر الزلابية التي يحضرها معه اثناء عودته من العمل وهو صائم وحبات العرق تسقط من على جبينه من كثرة التعب ومايحمله لنا من حلويات وفاكهة وطعام .ئكنت نسكن مع جميعا في بيت جدي ذلك البيت ذو الطابع الموصلي القديم  الواقع في محلة المكاوي وهي احدى المناطق القديمه في الجانب الايمن من محافظة الموصل كانت عمتي تجبرنا على الصيام واتذكر وقتها كان شهر تموز والجو شديد الحرارة كان عمري وقتها 7 سنوات كنت اغافل من في البيت وبحجة اني اغسل فمي بالماء كنت اشرب القليل منه لاني ظمأنة جدا ولا اريد الافطار لان العائلة جميعهم صيام فبعد انطلاق صوت مدفع الافطار وسماع الاذان ارى الجميع يجللني خاصة والدي حيث يضع امامي مالذ وطاب من اكل وشراب وحلويات وفاكهه وخاصة حلوى التطلي وهي كلمة تركية تعني الحلوى اللذيذة. بالنسبة لي كان التطلي أعجوبة الأعاجيب لا أعرف لماذا ؟.وايضا الكاسترد المطبوخ ذو اللون الاصفر الناصع والرائحه الزكية  لقد امنت وقتها بان جميع حلوى رمضان هو طعام أهل الجنة لطالما تخيلت ان الشهداء في الجنه هم من ياكلون الحلوى  لم أتخيل نفسي معهم أبداً ربما لعددِ المرات التي غافلتُ عمتي وأكلت منها  وأنا صائمة طبعاً.. اليوم لم أعد أستسيغه أبداً.بعد المغرب  كنا نستمع أو نشاهد الفوازير وحكايات الف ليلة وليلة..واتمعن لعمتي وهي تشاهد وتستمع بعد الساعه 12 عشرة ليلا لصوت الشيخ  النقشبندي وهو يتولوا ابتهالاته مولاي يالله اني ببابك قد بسطت يدي كان صوته ساحراً من نوع ما.. يخدّرنا بنبرة صوته العذب  ويحملنا إلى أصقاع الكون.كما اتذكر والدتي التي كانت تنتظر،بفارغ الصبر المسلسلات المصرية الرمضانية  التي كان يبثها التلفزيون من خلال قناة واحدة  كانت متابعتها لهذه الحلقات اكثر من متابعتها لنا .. كانت عمتي تصطحبني معها بعد الافطار للجامع الذي بقرب دارنا جامع قديم جدا يعود بنائه لاكثر من مئتي سنه وارى جيراننا نساءا ورجال شيوخ وعدد قليل من الاطفال الكل هناك يصلي التراويح، وهذا لم يكن أمراً اختيارياً أبداً.. أتذكر أن المصلين لم يتجاوزوا عادة مايتجاوزون الصفين  كان عدد الناس قليلاً على أية حال لان الجامع كان صغير ومبني في زقاق ضيق واتذكر تلك المقبرة الصغيرة التي فيه لكن مالا يغيب عن فكري ابدا هو شيخ الجامع ذلك الرجل المسن ذو لحية الطويلة البيضاء كبياض الثلج اتذكر في احدى  المرات اذكر اني عندما دخلت الجامع مع عمتي وقد بدأ الجميع بصلاة التراويح استغليت هذا الموقف وذهبت الى حديقة الجامع التي كنت اعتبرها احدى العجائب السبعه بسبب كثرة ازهارها ورائحة الاس والجوري التي تملأ الجامع بها فنظرة لاحدى ورود الجوري فأعجبتني كثيرا اقتربت اشم رائحتها واذا برائحة عجيبة ورائعه احببت ان اهديها لوالدي الذي كان يتعب بالعمل كثيرا حتى بعد فترة الافطار يذهب لعمله فمددة يدي وقطفت الوردة ذات اللون الزهري الفاتح فاذا بشيخ الجامع يعيط بصوت عالي ارعبني لحد اني لم الاحظ الا قدماي اخذتاني بعيدا وانا اسمع دقات قلبي لا اعلم هل هي من شدة الخوف او من سرعة الركض فقط لاخرج من باب الجامع وانا حاملة وردة كبيرة جدا هدية لوالدي العزيز .

لحظات جميلة نحاول اجترارها، نتذكر بها الماضي، ونستعلي من خلالها على الحاضر فضلا عن المستقبل، محاولين العودة إلى الوراء للتخفيف عن أنفسنا بعضا مما فيها. والحقيقة أن ربط الزمن الجميل بالماضي فيه تعد على الحاضر، وتشاؤم من المستقبل، إذ نجعل الجمال فيما ذهب فقط، ونرسل زفرات التحسر والندم لنصبغ بها حاضر الأيام وقادمها.

أنا لست امراه مسنة كما أن بيني وبين الشيخوخة عمراً مديداً وجهداً جهيداً.ورغم ذلك، فإن لي من الذكريات التي تجعلني أنظر للمكان هذه الأيام نظرةَ غريب، مستوحشة من ناسه.. وجلاسه لا عليكم لا تهتموا لهذه البداية الدرامية، فنحن في رمضان ولعل حمى الدراما الرمضانية أصابتني.

هذه مجموعة من الذكريات غير البعيدة  يفصلني -وأبناء جيلي- عنها ثلاثة عقود وأكثر.. وإن بدت للبعض بعيدةً كعصر النهضة، أو حالمة كزمن الوحدة.

ربما يكون من الجمال أن ألقي بذاكرتي في الماضي، تستأنس بذكرى عطرة وموقف لطيف، ولكن الكمال أن أستذكر الماضي بكليته، بخيره وشره فآخذ العبر، وأستتأنس بلطف الله وما قدره لنا فيه. وكما أن الماضي لم يكن خيرا محضا، فكذلك الحاضر والمستقبل ليسا شرا مستطيرا، نتعوذ منهما آناء الليل والنهار، بل هو حال متغير، ودنيا متقبلة، نتقلب فيها بين الخير والشر، ونواجه كليهما بكل قوتنا وشجاعتنا، فيكون حالنا الحمد عند الأولى والصبر عند الأخرى

ولا أدري هل الحنين للماضي وفاءً أم هروباً من الواقع الحالي؟ أم هو متنفس لعلاج الضغوط النفسية؟ فالإنسان يتذكر اللحظات الجميلة من الماضي في مقابل اللحظات الصعبة التي يعيشها من الحاضر فعندما تواجهنا خلال حياتنا الكثير من العقبات والمخاطر نحن إلى ماضينا البسيط وطفولتنا الجميلة المليئة بالأمان الخالية من المسؤولية، وعندما تواجهنا قسوة بعض الأشخاص بالمجتمع نتذكر طيبة أهل زمان، فجميعنا يشتاق للبيت «العود» والجد والجدة ودفء العائلة ونحن لشوارعنا التي كانت تعج بضحكات الأطفال والتواصل بين الأهل والجيران، فنحن نسترجع الذكريات القديمة بحنين للماضي عندما نتعرض لعراقيل وصعوبات في حياتنا الحالية تجعلنا نقارن بين الماضي والحاضر ونتمنى عودته، بل نجد أن مشاعر الفرح والحزن كانت أكثر صدقاً في الزمن الماضي رغم بساطة الحياة إلا أن الحب والدفء كان دائماً يحيط بالإنسان، فتلك مشاعر قد افتقدناها. 

هل تساءلت يوماً عن سر ذلك الحنين، وذلك الشعور الذي يطاردك عندما تزور بيتك القديم وتفتقد الزقاق خاصة بعد تلك الحروب التي غيرت كل ملامح مناطقنا او بالاحرى قضت عليها نحن نشتاق لتلك الاماكن دائما وياخذنا الحنين  لها لقد عشنا  فيها أيام طفولتنا وشبابنا تلك الرائحة المألوفة، ذاك الاطمئنان الذي نشعر به عندما نذهب إلى مكانٍ من الماضي، غرفنا القديمة، الصور العائلية، متعلقاتنا الشخصية القديمة زمن الطفولة الخالي من المسؤوليات والمخاوف، عندما كان كل شيء جيدا وكان الجميع سعداء ونتمنى لو أننا نستعيد تلك الحياة ولو للحظات..

انا أرى أن سبب المبالغة في تذكر الماضي هو التغيرات في طبيعة العلاقات الاجتماعية التي طرأت على مجتمعنا فقد افتقدنا العلاقات الاجتماعية والإنسانية الحمية التي تحقق للإنسان التوازن النفسي والاطمئنان والاستقرار العاطفي، وتشبع الاحتياجات النفسية لدينا. افتقدنا العلاقة الحمية بين الجيران وتواصلهم الجميل فبين تجمع النساء  لتناول الشاي وتجاذب أطراف الحديث، وبين تجمع الأطفال واللعب في شوارع الحي وبراحاته، افتقدنا التجمع الأسري اليومي حيث كان أفراد الأسرة يجتمعون يومياً ثلاث مرات على طاولة الطعام، ويلتقون جميعا على سفرات الافطار والسحور وحتى في الايام العادية  يتحاورون ويحصلون على مساحات واسعة للفضفضة فيحتسون جرعات كافية من الاطمئنان والسعادة والراحة النفسية. وغيرها من العلاقات الاجتماعية. إن افتقادنا للتواصل الاجتماعي مع الآخرين، أثار لدينا احتياجاً نفسياً للعودة للماضي، وجعلنا نشعر بأننا خسرنا أياماً جميلة سعيدة لن تعود وتعزز لدينا الشعور أن الأيام السابقة أجمل من الأيام التي نعيشها، والتي سنعيشها وكأننا ننعى السعادة ونودعها.

شهر رمضان ذو طعم مميز  لدى الإنسان المسلم بأداء العبادة والنسك والقيام والتقرب إلى المولى عز شأنه  وللعيد فرحة مكملة  وميزةٌ مغايرة بإتمام شهر رمضان المبارك  وتأدية العبادة بالشكل المطلوب وتسجيل الفرحة  والاجتماع مع الأهل والجيران  والأصحاب  والأقارب .

وقبل بضعة عقود كانت كثير من هذه التقاليد ما تزال حية، خاصة تلك التي تمارس في ايام رمضان والأعياد، وفي مقدمتها تقليد الماجينا، وهو عبارة عن تجمع لأطفال صغار في ليالي رمضان يتجولون جماعات بين الأزقة، ويطرقون الأبواب للحصول على الحلوى أو الأطعمة من ساكنيها.

أختلف الزمان وتغيرت البعض من الأنفس البشرية مما كانت عليه في قديمها ، و أصبح البعض منها وكأن يوم العيد وفرحته يومًا عاديًا لا يحمل معنى الفرحة الحقيقية بيوم العيد .في زمن الطيبين كان الوالد يصطحب أبناءه لشراء الملبس الجديد مهديهم مجموعة من أكياس المفرقعات ليعبرون بفرحتهم بها ويرسمون على شفاه والديهم الفرحة والسرور  وسط فرحة عامرة بقدوم العيد ، ومع بزوق شمس يوم العيد يصطحب الوالد آبناءه للصلاة بالمشهد ، ومعايدة الأحبة والجيران ، ومع عودتهم للمنزل يقفون الأطفال صفًا واحدًا لأخد عيديتهم من يد والديهما أو الشيخين الكبار لتكتمل الفرحة والمتعة على وجوه الأسرة جميعُها ، وتكمن بزيارتهم للأقارب والأصحاب .

وفي عهدنا الحالي المُسيء مع شيوع الفتن ، وتقلُب الأحوال تفرق البعض من الناس عن بعضهم البعض إما إن كان بالسفر أو بالنوم أو بغير ذلك في يوم العيد وأصبح نهارهم ليلا وليلهم نهارا ، وتبدل العيد القديم بالعيد الحديث ، ولم يعد أحد يزور الآخر ، الجار لا يرُد سُنة العيد على جاره ، ولا القريب على أقاربه مع إنعدام تلك العادات الجميلة في زمن الطيبين . وانا اقول صاحب النفس الجميلة يرى الجمال في كل لحظة، وليس في الماضي فقط، ويتفقد الطيبين حوله، من أهله وأصدقائه، وزملائه ورفاقه. وصاحب الفطنة يعاين الموقف من كل اتجاهاته، من الزوايا المشعة المحيطة به، حيث يرقد الحب والجمال، ومن ثغرات الغدر التي قد تسمح للعابثين بالعبث فيه..

ربما يكون من الجمال أن ألقي بذاكرتي في الماضي، تستأنس بذكرى عطرة وموقف لطيف، ولكن الكمال أن أستذكر الماضي بكليته، بخيره وشره، فآخذ العبر، وأستتأنس بلطف الله وما قدرّه لنا فيه. وكما أن الماضي لم يكن خيرا محضا، فكذلك الحاضر والمستقبل ليسا شرا مستطيرا، نتعوذ منهما آناء الليل والنهار، بل هو حال متغير، ودنيا متقبلة، نتقلب فيها بين الخير والشر، ونواجه كليهما بكل قوتنا وشجاعتنا، فيكون حالنا الحمد عند الأولى والصبر عند الأخرى.

ربما يكون الماضي أفضل من اليوم حسب معاييرنا، وربما جمعتنا ذات يوم لحظات دافئة في عائلة جميلة، أو بين جمع من الأصدقاء أسبغوا علينا من كريم ضحكاتهم وملحهم، فزاد تلك اللحظات جمالا فوق الجمال، ولكن كل هذا، بجماله وبهائه، لا يجعل الماضي قد مرّ بلا منغصات، ولا يجعل الحاضر خاليا من الخير والجمال، أو المستقبل كدرا مليئا بالهموم بلا مقدمات بل كل زمان له ما له وعليه ما عليه فيه من الخير ما يجعلنا نحمد المولى أن جعلنا فيه، وفيه من الشرور ما يجعلنا نستعيذ بالله هروبا منها.

وهنا أقول كفانا استرجاعاً للماضي، فما هو إلا جرعة مهدئة وليس علاجاً دعونا نبتكر طرقاً لتعزيز التفاعل الاجتماعي بين أفراد الحي وبين أفراد الأسرة، وبين أفراد العائلة كإقامة الأنشطة والفعاليات التي تجمع أفراد الحي دعونا نتمسك بالتجمعات العائلية، ولنصنع بأيدينا حاضراً سعيداً ولنوقن بأن 

أجمل الأيام يوم لم نعشه بعد..