نسرين ولها أديبة و شاعرة تونسية
ولّى الشتاء وطُويت أيّامه في مُجلّد الماضي بكلّ برودتها وقسوتها، وأقبل الربيع يُلوّن الوقت بأصباغه الصاخبة وينثر الأمل هنا و هناك على قارعة الطريق، بين طيّات الطبيعة، و فيما وراء جدران المنازل. إنّه فصلُ بثّ الحياة في أوصال الكائنات، فصلُ الإزهار والتّجديد. وفي الأثناء، يُحاول المرء التأقلم مع مزاجية الطقس والناس.
وليس بعيدًا عن معالم هذه الأجواء المُتكرّرة دائمًا بأثواب حديثة، تتربّعُ مدينة "رفيف " على خارطة العالم بهيبتها الهائلة وجمالها الفِطري المُذهل. وتقع عليها سُنّة الكون بشتّى قوانينها. فتراها حينًا شاحبةً رماديّة الصورة مُزدانة بِعباءة الشتاء والخريف، وتجدها حينًا آخر مُتوهّجة في أوج فتنتها تخلب الألباب خاصّة لمّا يمرّ بها الرّبيع والصيف.
مثلما لا تخلو الورود من الأشواك فإنّ حياة معظم الناس تكون ازدواجية عجيبة بين الأمل والألم، النّجاح والفشل، السعادة والحزن، الضعف والقوة. وكلّ تلك الأضداد تتجسد في داخل الإنسان وتتجلّى على شخصيّته. كذلك هو الحال لريناد، سيّدة تفوح بعطور الإنسانيّة كوردة الغردينيا ولكن لا بُدّ من تلك الأشواك النّاعمة التي تلتصق بحياتها اليوميّة.
" لا يُكلّف الله نفسًا إلاّ وسعها " كم هي عميقة هذه العبارة! وكم أنّ فيها راحة عظيمة! إذْ مهما تكالبت الحياة على المرء فإنّ القدر لن يُحمّله ما ليس في استطاعته " لفظت ريناد تلك الكلمات لأبنائها وطفقت تُرتّب بيتها شأن كلّ يوم. هي تعلم جيّدًا أن مسؤوليّة تربية الأبناء من دون وُجود الأب ليس بالأمر الهيّن على الإطلاق، ولكن ثمة بقعة نور تُشعّ في قلبها تُنير لها ذلك الظلام الكاحل والفراغ الباذخ الذي خلّفه رحيل زوجها، مُعيلها وسندها في الحياة.
هي مازالت شابّة وفي ذروة العمر والأعين مُسلّطة على جمالها أينما حلّت، وعلى الرغم من كلّ تلك الإغراءات فقد كانت امرأة من نورٍ مُتشبّعة إلى حدّ النّخاع بزُهدها عن جميع ألوان الشهوات. أمّا عقلها، فإن وُضع في مزاد عالمي لَفاز فوزًا عظيمًا. فقد كانت الكُتب السّامية التي تُزيّن رفوف ذاكرتها تجعل من فكرها حقلاً شاسعًا ملآنًا بثمار الحقيقة والمعرفة وكلّ ما هو عُلويّ بحت.
وفيما كانت ريناد مُنغمسة في حدود عالمها الصغير، طُرق باب بيتها. عجّلت وفتحت الباب، فإذا برجلٍ جريحٍ مجهول الهويّة بالكاد يلتقطُ أنفاسه يلجأ إليها ويطلب المُساعدة. كان ذراعهُ يقطر دمًا وكان وجهه متورّمًا بعض الشيء، حتّى صوته كان منخفضًا عليلاً من الوجع الذي يُخفيه في صدره.
على الفور، أمسكت بكتفه وجذبته نحو الداخل، وسارت به إلى الأريكة حيث ركنته لِدقيقة واحدة بينما أسرعت وأحضرت صندوق الأدوية. " تُرى من أخبره بأنها تُجيد الطبّ؟ أم أنّ القدر دفعه إليها بِغير واسطة بشرية؟ " كانت قريحتها وهي تتفحّص جراحه
لا تنفك عن طرح الأسئلة. ثمّ قررت فجأة أن تُقاوم خجلها وتسأله قائلةً:
-أيّها السيّد ! ها قد عقّمتُ لك الجرح العميق و خِطته حتى لا يتعفّن بمفعول الجراثيم.. فهلاّ أخبرتني من تكون ؟ و ما الذي حصل لك ؟و كيف انتهى بك الحال أمام بيتي ؟
- أنا حمزة .
أفشى الرّجل اسمه و سكتَ .و ظلّت ريناد تتفحّصه بعينيها بل بفراستها .لم يبدُ لها من صنف المجرمين و لا من المتسكّعين في الشوارع . وإنّما هيئته كانت تُشير إلى كونه ينتمي إلى عائلة مرموقة أو لعلّه نبيل من النّبلاء. و لكنّه لا يُريد الكلام أو أنّ ما جرى له لا يُقال .
و مرّة أخرى تستجمع ريناد قواها و تُخاطبه بنبرة حازمة :
-من تكون يا سيّد حمزة !!
-أنا حمزة .الرجال الذين سرقوني .. أطلقوا علي اسم حمزة من بطاقتي التي بحوزتهم.
- ماذا؟ أولا تذْكُر اسمك ؟؟
- قُمت بحادث سير ..و لما فقتُ من الإغماء ..وجدتني مُطوّقًا بمجموعة من قطّاع الطّرق و منزوعَ الذاكرة .
- يا للهول !!
0 تعليقات
إرسال تعليق