{هاجَرتَ صَبرَاً، وَإذ فِيها كُنتَ مَنفِيها}
علي الجنابي
نعم، قد هَاجَرَ مِن بَكَّةَ رَغمَ أنَّ بَيتَ اللهِ فِيها. هَاجرَ وهوَ الأصلُ والنّجمُ فيها، ومَا كانَ لافِيها. هَاجَرَ ومَا كانَ شائِنَها ولا شَانِئَها، ومَا كانَ جَافِيها. هَاجَرَ لأنّهُ للهِ عابداً، وللّاتِ ولملَّةِ الآباءِ نافيها. هَاجَرَ صَبرَاُ وعلى حَزَنٍ، وَإذ فيها كانَ مَنفِيها. هَاجَرَ وإذ لعابُ الشِّركِ نَاقِعٌ في غَمْراتِ فِيها. هَاجَرَ وإذ خِطابُ الشَّرِ فَاقِعٌ في ضِغثِ غَافِيها. هاجَرَ وهوَ سيّدُها وصافِيها، وخيرُ الخَلْقِ فِيها. هاجَرَ ومَا كانَ حَليفَها، بَلِ هوَ الحِلُّ والحَلُّ فِيها. هَاجَرَ وهو وليفَها، وعن مَوَدَّةٍ في جَنبَيهِ يُخفِيها. هَاجَرَ ومَا هَجَرَ، بل كانَ أمينُها وكانَ الوفا فِيها
هَاجَرَ، وهو خيرُ مَن مَشَى فِيها، وبالذِّكرِ مُشفِيها. هَاجَرَ بَأمرِ رَبِّهِ على مَعَادٍ أن يُزكّيها ويُوفِيها. هَاجَرَ، على عَوْدٍ لِنَارِ الكُفرِ أن يُخمدَها ويُطفِيها. هَاجَرَ، وأبو بَكرٍ لخُطَى النُّورِ حاديها وقَافِيها. هَاجَرَ لطِيبةَ فكانَ هاديها، وبالقرآنِ شَافِيها. هَاجَرَ وكانَ فيها البَدرَ، وبنورِ الوحيِّ يُضفِيها...
صلَّى عَليهِ اللهُ، ما سَكَنَت في نَفسٍ تَراقيها...
صلَّى عَليهِ اللهُ، ذو رِفعةٍ مَالها مَن يُدانيها ...
صلَّى عَليهِ اللهُ، ذو شِرعةٍ تَسمو معانيها ...
صَلَّى عَليهِ اللهُ في نَواصيها وفي أقاصيها...
وصلَّى عَليه الرحمنُ كُلَّ لحظٍ دَرَّ بالغفرانِ فِيها
كيفَ الثّناءُ عليكَ يا سيدي يا رسولَ الله! كيفَ الثّناءُ عليكَ! وَإِنِّي مَا كُنتُ لِأُرَى سَبِيلَ لرُّشْدِ لَولَاكَا، فَأَنتَ الّذِي عَلّمنِيَ كِتَابَاً وَحِكمَةً وَزكَاةً وَتطَهُراً وَحَتى تيَامُنَاً وَسوَاكَا، وَكُنتُ مِن قَبلُ مُلتَحِفاً ٱلأَترَاحَ رَاحَةً، وَمُؤتَلِفاً ٱلأشبَاحَ بَاحَةً، وَمُستَلطِفاً النَّوَاحَ وَاحَةً، وَإن كُلُّ أُولئِكَ إِلّا أشوَاكَاً وَتِيهاً وَإِربَاكَا..
أَنّى لِيَ الإِبصَارُ في سَوَاءِ هَدْيٍ! مَا كَانَ ليَ أَن أُدرِكَهُ -رَغمَ تَدَبُّرِي- إِدرَاكا، بَل لَكانَتِ ٱلّلاتُ قِبلَتِي، وَمَناةُ صَبابَتِي، وَمُنهَمِكَةٌ هَامَتِي فِي رُكُوعِها لِلعُزّى إِنهِمَاكا! وَسُبُلُ ٱلغَيِّ لي هيَ ٱلسُبُلُ، وَغَزَلُ ٱلأَسَاطِيرِ هيَ ٱلبلبل، وفي نُزُلِ ٱلحَمِيَّةِ زَهوَاً مُكَبَّلُ، وَفِي وَحلِ ٱلغَزوِ رَهوَاً مُسَربَلُ، شَحِيحُ مَاضٍ وعَفا عَنّي ٱلمُستَقبَلُ، وَمِيزَانُ ٱلحَياةِ كُنتُ نَزقَاً أَنتَهِكُهُ إِنتِهاكَا، وَلَولا ذِكرٌ مِنَ ٱلرَّحمنِ مُحدَثٍ مَاٱنبَجَسَ من حَجَرِ ٱلفُؤادِ نَبعُ هُدَاكا.
أَغَثتَنِي يَا رَسُولَ اللهِ مِن سَرَابٍ بِقيعةٍ فَٱستَنارَتْ شِعَابُ ٱلصَّدرِ مِن حُسنَاكا.
يَاهِبَةَ ٱلوَهَّابِ فينا بُعِثَت، أَيُّ شَرَفٍ وَسَمَ ٱلإلهُ بِهِ جِبَاهَنا أُهلَ ٱلضَّادِ أَنَّنا حُزْنَاكا!
سَأنقُشُ على نَاصِيةِ ٱلوَرَى عِزّاً وَفَخرَاً، أَن: (نَطَقَ بِلِسانِ ٱلضِادِ فَاكا).
أنا ما قُلتُ مَدحاً، ولن أتَجَرّأَ على مَدحٍ، وأنّى ليَ مدحاً في آفاقِ مَداكا! وأنّى لخافقيَ أن يُدرِكَ في هذهِ الدنيا طَرَفَ مَقَامِكَ، شَرَفَ مَهَامِكَ، كَنَفَ مَرَامِكَ، وَأَطيَافَ فضاكا؟ أفَبعدَ الثناءِ البَهِيّ من ذِي ٱلعَرشِ العليِّ، في قرآنٍ مُعجزٍ وزكيٍّ، وبِلسانٍ فَصيحٍ وعربيٍّ بِهِ يُتعبدُ فَوَفّاكا، أَن أَتَجَرأَ عَلى مَدحٍ وَأَنّى لِيَ أن أتَبارى على ثناءٍ في شذاكا؟ وكَيفَ تَسَنّى لِلقَوَافِيَ أّن تَتَبَارى فِي ثَنَاءٍ فِي فَيضِ رِبَاكَا؟ فهاهي ذي قد أقبَلَت آيةُ الفُرقانِ تَشُعُّ بالذُروَةِ جَلياً في ثَناكا:
"وَلَو شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيِرَاً" من حولِ قُراكا، بَل أنتَ النذيرُ لِلعَالمينَ أجمَع ولَن يَكونَ لَهُم نَذيرٌ عَداكا. ومَا ٱجتَبَينَا رَسُولاً إلى الثَّقلينِ قَطُّ لا أمَامَكَ ولا وَراكا. وَما آتَينا سَبعاً مَثانٍ وكِتاباً مُهَيمِناً قَطُّ إلّاك وإيّاكا.
يا سَيّدي يا رسولَ اللهِ..
يا"ثَمالَ اليَتامى وعِصمَةٌ للأراملِ وأبيَضٌ يُستَسقَى الغَمامُ بِوجهِكَ" ويستَحي من صَفاكا. أيُّ شَرَفٍ وَسَمَ الإلهُ بهِ جِباهَنا نحنُ العُرْبُ أننا حُزْناكا!
فَدَتكَ النَّفسُ يا سيّدَ الأنامِ، وعذراً، فإنّي أرَى نَفسي-لنازلةِ دَهرٍ عابرةٍ- شاكيةً مُنهَكَةً قِواها إنهاكا. فكَم وكَم من آهةٍ أنتَ كبَّلتَها في أصفادِها وقَمَعتَها دونَ شَكوى في مَيادينِ أذاكا! وبِيمينِكَ طَوَيتَ أثقالَ البلاءِ طَوياً وما طَواكا، ومَا إختَرَمَتكَ نائبةٌ ماإكفَهرَّتْ لِجَسِيمةٍ وجنَتاكَ!
كيفَ سَبَقتَ النّاسَ بلِ العالمينَ في صَبرٍ، وكيفَ فُقتَ الرّجالَ بلِ الأنبياءَ في تقواكا! وكيفَ إستَحكمَتْ دَوماً وماعرفَتْ خائِنةً ولا الزيغَ يوماً عَيناكا وكيفَ إستعجَمَتْ لهواً، وماغَرَفَتْ شائِنةً ولا الليغَ سهواً أُذُناكا!
زكيِّ الفؤادِ دَوماً، فما لَفَظتَ لِلَحظةٍ هَزلاً، ومافَضَضتَ لِوَمضَةٍ غزلاً، ومانَقَضتَ لِلمضَةٍ إلّاكا!
كيفَ أبصَرْتَ نائِباتٍ إنتخبَتِ الأبَ فالأمَّ فالجَدَّ ومانَجَوَا عَمَّاكا! والزّوجَ الطّاهرَ فبنينَ فبناتٍ كُنَّ هنَّا سلواكا! وعلا الصّباحُ فمَا لِلَمساتٍ من أختٍ حنونٍ تَزرعُ حنانَها حَوالَيكَ في صِباكا! وخلا المساءُ من بَسماتٍ ذي شُجونٍ يرمي إليكَ بسهامِها فترمي بالسَّهمِ منها أخاكا!
كيفَ عَقَقتَ، بل مَحَقتَ مِلَّةَ الأباءِ والأشياخِ ولِحراءِ مَسعاكا!
كيفَ انشققت عن قومٍ، وعَشِقتَ جَبَلاً بستانَ تَدَبُّرٍ مَأواكا! وأوبَاً صَوبَهُ بلا مللٍ، ودأباً شطرَهُ بلا كَلَلٍ، يَدفعُ اللْبُّ دفعاً ذُرى رناكا!
يا لعلوِّ نَظَراتِ تَفَكُّرٍ في السَّما، ويا لسموِّ خَلجاتِ تَدَبُّرٍ في الفضا، ويا لِرفعةِ وشرفِ مُناكا! فتسألَ هنالكَ بِرَجَا؛ إلهي دُلَّني أينَكَ، جلَّ في عُلاكا؟؟ وما كنتَ تَدري أنَّ نورَ الجلالِ قد غَشيَكَ وقد غَشّاكا، وبالنبأِ العظيمِ سيُصَرَّحُ؛ يامحمد قدِ إجتباكَ الإلهُ وإصطَفاكا، فدَنا ذُو مِرَّةٍ منكِ وتَدَلّى قابَ قَوسينِ لمَّا أتاكا! بعدما قرأتَ: "إقرأ بإسمِ رِبِّكَ". رَبُّكَ الذي زكَّاكا!
"اللّهُمَ صَلّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ كمَا صَلَّيتَ على إبراهِيمَ وآلِ إبراهِيمَ، وبَارِك على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ كمَا بَارَكتَ على إبراهِيمَ وآلِ إبراهِيمَ في العَالمينَ، إنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ.
0 تعليقات
إرسال تعليق