سيف الدين ناصر
وقع بين يدي كتاب بغداد كما عرفتها من تأليف الأستاذ امين المميز رحمه الله فكان حقيقة من أروع الكتب التي تحدثت عن بغداد التراث والفولكلور والمجتمع والعمران ولم يكن الاطراء الذي خص به الكتاب ومؤلفه من قبل الأستاذ المؤرخ جلال الحنفي رحمه الله الا اطراءاً مستحقاً، لقد تناول الكتاب ذكريات الكاتب محمد امين المميز منذ ولادته عام ١٩٠٨ حتى الثمانينات حينما انتهى من تأليفه.
الكتاب ينقلك بجمله الصورية وعذوبة الوصف والبراعة في الأسلوب واللغة التي تتخللها بعضاً من الكلمات والمصطلحات البغدادية التي انقرضت ولم يعد احداً يتذكرها فينقلك على بساط من الخيال لتعش تلك الفترة وتتجول في ازقة محلات بغداد القديمة ودرابينها وعگودها وخاناتها وتتحسس رطوبة حجراتها وتشم عطر نسائم ربيعها التي تهب من دجلة الخير الذي هو شريان بغداد الحبيبة.
ولد محمد امين المميز في محلة كانت تسمى بمحلة الدنگچيه ثم تبدل اسمها الى جديد حسن باشا وباب الأغا وهي محلة كانت من اقدم احياء بغداد واعرقها وتمثل عصبها فكل من يريد التسوق لابد ان يمر بها وكل من يريد مراجعة دوائر الحكومة لابد ان يمر بأزقتها ليصل الى مركز الحكم في القشلة، هي المحلة التي تمتد من شارع الجسر وعگد الصخر (المتحف البغدادي) حتى شارع الاكمك خانه (شارع المتنبي) . الوصف الجميل للكاتب شمل الدور والخانات والدكاكين والعوائل والشخصيات واحداً واحداً وشمل الحوادث والاحداث ليجعلك وانت تقرأ كأنك تشاهد فيلماً سينمائياً ابطاله تنسجهم في خيالك وتستوحيهم من ابطال شخصيات الدنگچيه.
الكتاب لا يمل وأتمنى لو كل كاتب أرخ محلته ببيوتها وسكانها كي تصبح لدينا موسوعة تراثية تحكي عن مدينة ألف ليلة وليلة وليطلع عليها جيل اليوم ليعي لمَ كانت بغداد قبلة العالم وكيف ان اهل بغداد كانوا من أكثر المجتمعات رقياً والتزاماً وذوقاً وشهامة وسأقتبس من بين صفحات هذا الكتاب (الصفحة ١٠١) بعض السطور التي يصف فيها الكاتب أهالي باب الشيخ وينصفهم لأختم بذلك مقالي هذا وانا اترحم على المميز ووالديه وادعو من الله ان يسكنه الجنة ويغفر له ويسعد من بقي من اهله واحفاده كما أسعدني بقراءة كتابه الممتع.
((وعرضاً، لم يقتصر تصدير محلة باب الشيخ على هذه الصناعة، بل انها تصدر لبغداد نتاجين آخرين مهمين أولهما (دبس باب الشيخ) الذي يفوق كل دبس ينتج من التمر، من حيث الطعم والنكهة، وثانيهما، وهو الأهم، ما تنجبه من رجال يتصفون بالجرأة والجسارة، وعزة النفس والكرامة والشهامة، فيقال فلان شيخلي، أي جريء ومقدام وعزيز النفس، شهم ذو أنفة عالية، مثل ما يقال فلان ( ميدنلي ) اذا ما أريد الحط من قدره ومنزلته الاجتماعية ))
0 تعليقات
إرسال تعليق