حياة بن بادة
يا غبارا فيّ تكدّس، يا غبارا بالروح تقدّس، يا غبارا شقّ صدري فتنفّس! يا غبارا دسّه الكتمان في إطار، ولمّا هبّت ريح الحياة طار، وحلّق بالروح ضدّ الريح، حيث الأوراق تحطّ بساقها الجريح، والحروف كالمحارب تضع سيفها وتستريح. وحدي تُرِكت من حسابه في جيب الأرض بقيّة، وحدي بقيت كطفل يلاحق طائرة ورقية،
أشدّ أنامل قدري بيديّ، لست أدري إلى أين سيمضي بعينيّ، ومتى وفي أيّ مرأب سيُركن قدميّ. أترجّاه أن يحملني بعيدا.. بعيدا حتى إذا ما أسقطني؛ التقطني، حتى إذا ما أفلت يدي؛ ضمّ بسرعة صدري، وفرش لي في حضنه خيمة، تحميني من بطش أطفال الغيمة، تلك التي لطالما اعترضت طريقي في زوايا الحيّ والمدرسة، واتخذت لرماحها من جسمي النحيف مرسى، وأنا الطفل الذي كبّله الأسى، فلم يزل لمصابه يتأسّى، ولم يزل يفتح لأولياء الحب ذراعيه، وهو الذي لم يحتمِ يوما تحت ذقن أبيه، ولم يذق طعم النوم العميق بين جناحيه!
 يا غبارا من روحِ ماضٍ مات، حمّمتها وألبستها الكلمات، ثمّ أخرجتها في شكل جسيمات، وبدّدتها حيث البشر؛ أحدهم ينفضها وآخر يستنشقها حتى أصيب بها. أحدهم يدرسها باحترام، وآخر يمرّ عليها مرور الكرام. تلك الروح التي خفّفتُ كلماتها صيفا برداء، ولففتها بالمعاطف في الشتاء، وغذّيتها بفتات تساقط من زوايا قلبي المنكسرة، ومن ثمار أشجاره التي خرجت من معارك الرّيح منتصرة.
في دولاب الأبجدية رصفت عددا من الكلمات، فيها التي احتشمت في جلباب، وغلّقت من حولها الباب، لكن بقدر ما ضجّ قلبها وامتلأ، لم تكن لتبوح بسرّها على الملأ، وفيها التي تبرّجت دون قصد، ومع ذلك كنت أستر عوراتها في قطعتين، كلّما عرّيتها في حرفين. لهذا كانت كالغبار لا تعلق إلّا في الحنين، ولا يشمّها إلّا قلب شجين؛ لامست شغافه الحسّاس فأرسل جوابه في عطاس.
في خزانة الأبجدية رتّبت عددا من الكلمات، فيها القديمة التي لم تفقد بعد بريقها، وفيها العتيقة التي لم تعد تستعمل ومع ذلك أحييتها في تصميم جديد، وفيها التي تواكب العصر وتخرج لشارع المعاني كما تريد، فيها المتناسقة ألوانها، وفيها التي تحلّت بفوضى زيّ طفل شريد، وفيها الجديد وفيها المزيد!
بالحبّ حمّمت روحي وطهّرتها، لم يكن يهمّني أين ستستقر، ومن بها سيقرّ، فالحياة ملأى بالقلوب الجاهزة، تلك القلوب المستعدة لتحبّ ولتشارك ولتشجّع ولتبكي ولتنتفض وتعتصر، لتحضن ولتغنّي ولتحتوي وتنتصر، لهذا نثرتها وسط الفضاء واحدة تلو الأخرى في طقم من حروف، صمّمته لعينيها الظروف، خيّطته المشاعر وعلى صدر حياة من خشب كوته الصروف. لم يكن يهمّني بمن ستصطدم في آخر الطريق، وما إن كانت ستجد الصديق، وفيمن ستعلق، وإن كانت ستتألّق، ومن بطرف فستانها سيتعلّق، "فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"! كباقة ورد كنت أرميها خلفي، لم يكن يهمني من سيلتقطها من بعدي وأنا أشدّ يد القلم، كالبسمة من وجهي أطلقتها حين شدّتني أصابع الألم. كالعروس كنت أرميها خلفي وبعيدا كنت بحبري أختلي، عن الناس أختفي، وببوحه كنت كالطفل أحتفي.
وزّعت الرّوح حيث يجب أن تكون، حيث الفوضى والسكون، حيث الدموع والضحكات والجنون، وحيث الحياة والمنون. لم أكن أعلم أنّ الرّوح كما الأرحام ولّادة، وفي كل موطن تضع حملها حتى جرّبت الكتابة، لم أكن أعلم أن الرّوح كالسّحاب كلما عصرتها جاءني منها كتاب، لم أكن أعلم أنّ الرّوح كالنّساء، تمرّ بلحظة إخصاب ومخاض، لم أكن أعلم أنّ الرّوح كذلك حتى شاهدتها تخرج تباعا في ثوبها البهيّ، كأسراب الطيور التي لا تنتهي! وزّعت الروح حيث أنت وأنا، نتناوب على الهناء والضنى. وزّعت الروح حيث لا يشعر أيّ منّا أنّه غريب؛ يحمل وطنا في ذاكرة، وذاكرة في لسان، والحبّ في إنسان، والإنسان في إحسان. وزّعتها حيث لا يمكن لأحد منا أن ينفرد بألم، وحيث الرؤوس على الأكتاف تسكن، والألسن معا تتكلّم، والقلوب لمصاب بعضها البعض تتألّم.