د. منى كيال
 د. محمد فتحي عبد العال

 الطعام ضرورة من ضروريات حياتنا، فهو الوقود الذي يمدنا بالطاقة والغذاء الذي يجدد خلايانا ويدعم عمل جهازنا المناعي لمقاومة الأمراض، ولهذه الأهمية كان لزاماً أن نحيط عاداتنا الغذائية بمعايير تضمن لنا الصحة الجيدة وتحقق لنا أكبر استفادة ممكنة من الغذاء.



 علم التغذية الجيني Nutrigenomics أو الجينوم التغذوي nutritional genomics

 هو العلم الذي يدرس العلاقة بين التغذية والجينات الوراثية وصحة الانسان. ويهتم بدراسة تأثير الغذاء على الجينات سواء سلباً أو إيجاباً، ومن ناحية أخرى يدرس تأثير الاختلافات الجينية الفردية التي تتدخل في تأثير الأغذية على صحة الانسان.

 هناك مفهومان مختلفان تماماً يقعان في اطار ثالوث العلاقة بين التغذية والجينات والصحة:

 ١- تأثير التغذية على الجينات الوراثية وبالتالي على صحتنا

 ٢- تأثير الجينات على التغذية واختيار نمط التغذية المناسب تبعاً لجيناتنا



 تأثير التغذية على الجينات: عالج جيناتك بالتغذية

 ”أنت ما تأكله“ و ”المعدة بيت الداء“ … هذه الحكم الطبية ما زالت صالحة في عصر الثورة الجينية، ويدخل هذا المفهوم ضمن اطار علم الايبي-جينيتيك (علم ما فوق الجينات)، والذي يعنى بتأثير العوامل الخارجية البيئية ونمط الحياة والتغذية على جينات الأمراض المختلفة وبالتالي على صحة الانسان. 

 يدرس هذا التخصص تفاعل الأغذية التي نتناولها مع الجينات المسببة للأمراض المزمنة كأمراض القلب والسكري والسمنة المفرطة والأمراض السرطانية، مما يزيد من احتمال الاصابة بهذه الأمراض.
 هذه الأمراض و رغم منشأها الوراثي، إلا أنها لا تحدث بسبب طفرة جينية واحدة، بل نتيجة لتفاعل عدة جينات فيما بينها، اضافة لعوامل خارجية كالتغذية ونمط الحياة والبيئة المحيطة.

 وفيما يخص التغذية، فهو يدرس التأثير الايجابي أو السلبي للغذاء على الجينات الوراثية، حيث يتفاعل الغذاء مع هذه الجينات مما يزيد أو ينقص من احتمالية الاصابة بالامراض المختلفة. ومن المعروف دور السكر الأبيض والزيوت المكررة والملونات الغذائية وبعض المركبات الكيميائية في التأثير السلبي على الجينات وتفعيل الآليات الامراضية لها.

 لقد حمل انطلاق مشروع الجينوم البشري في تسعينيات القرن الماضي الأمل في أن قدرتنا على قراءة كتاب حياتنا الصحية المستقبلية متمثلا في خريطتنا الجينية يمكننا من القضاء على الكثير من الأمراض بالمعالجة الجينية. ومع اجتياز هذا المشروع وتطور معرفتنا عن الجينات الوراثية، اكتشف الباحثون أن جيناتنا وحدها لا تقرر اصابتنا بالأمراض ذات المنشأ المختلط كأمراض القلب والسكري والسرطان والاكتئاب والسمنة المفرطة وغيرها. فكل انسان لديه القابلية الوراثية للاصابة بعدد من هذه الأمراض، لكنه اصابته بهذه الامراض ليست حتمية وانما تعتمد على نوع الطعام الذي نتناوله وغيرها من العادات الصحية.

 إن تناول بعض الأغذية المسيئة للجينات الوراثية بكميات كبيرة ولمدة طويلة ونقص بعض العناصر الغذائية الضرورية لتركيب ال DNA خاصة فيتامينات B، يمكن أن يسبب تغييرات كيميائية في الجينات الوراثية. فمثلاً وجود خلل في عملية ميثيلة الحمض النووي (DNA methylation) يعدّل تعبير الجينات عن نفسها (Gene expression)، بدون تعديل سلسلة الحمض النووي التابعة لها. ويسبب هذا الخلل الكثير من الأمراض المزمنة كأمراض القلب والسرطان وأمراض المناعة الذاتية.


  ومن الأمثلة عن التفاعل الجيني الغذائي:

 ١- دور السكر في الاضطرابات الهرمونية 

 عند تناولنا لحمية غذائية غنية بالسكريات البسيطة فإن السكريات تتحول إلى دهون زائدة قد تعطل عمل الجين المتحكم في الهرمونات الجنسية، مما قد يسبب زيادة في افراز الاستروجين والتستوستيرون فينتج عن ذلك حالات حب الشباب وسرطان الرحم والعقم في السيدات البدينات.


 ٢- تأثير حمض الفوليك على تركيب الDNA


 ينظم جين (MTHFR) عمل انزيم Methylenetetrahydrofolate reductase الضروري لتحويل حمض الفوليك إلى شكله الفعال ميثيل فولات (5MTHF) الذي يستطيع الجسم الاستفادة منه.
 يقوم الميتيل فولات بإعطاء زمرة الميتيل لصنع مركبات مهمة في الخلية عبر عملية الميثيلة methylation، هذه العمليات ضرورية لعملية تركيب ال DNA في الخلية بشكل مناسب.

 إن سوء عمل الأنزيم الناجم عن طفرة MTHFR يسبب ارتفاع الهوموسيستئين في الدم وبالتالي زيادة نسبة حدوث أمراض القلب وجلطات الساق والصمامة الرئوية والسكتات الدماغية. اضافة إلى مشاكل الحمل و تشوهات الأجنة والاجهاض المتكرر، والذي يحدث بسبب انسداد أوعية المشيمة بخثرات صغيرة تعيق وصول الدم للجنين. هذا عدا عن المشاكل العصبية والنفسية الناجمة عن السمية العصبية للهوموسيستئين ونقص تشكيل الناقلات العصبية.

 إن نسبة هذه الطفرة بين الناس تصل ل ٤٠ بالمئة، وهناك نوعين للطفرة تبعاً لكونها موروثة من أحد الوالدين أي متخالفة الأمشاج (Heterozygous )وهي أخف ضرراً وأقل أعراضاً، والنوع الآخر موروثة من كلا الوالدين أي متماثلة الأمشاج (Homozygous) وهي أكثر ضرراً وقد تسبب مشاكل صحية خطيرة.

 ويمكن الوقاية من المشاكل الصحية الناجمة عن هذه الطفرة بتعويض النقص الحاصل في الفولات الفعال على شكل مركب الميثيل فولات (5MTHF) وليس حمض الفوليك. ونظراً لكون هذه الطفرة مسؤولة عن عدد كبير من الاجهاضات المتكررة تخضع السيدات المصابات بهذه الطفرة للعلاج ب MTHF وتناول غذاء غني بفيتامين B12 وB6 والفولات والزنك والكولين.




 تأثير الجينات على التغذية

 مفهوم التغذية الشخصية والنظام الغذائي المبني على الجينات الوراثية والذي يختلف من شخص لآخر تبعاً لاختلافاتنا الجينية، يعد بآمال كبيرة في مجال مكافحة مرض السمنة واختيار نمط التغذية للأشخاص تبعاً لخارطتهم الوراثية.

 يدرس هذا التخصص تأثير التركيب الجيني على قدرة الجسم على استقلاب مختلف المواد الغذائية بشكل يختلف من شخص لآخر. فهو يدرس تأثير اختلاف الجينات الفردي على التفاعل بين الحمية الغذائية والصحة، ويسلط الضوء أكثر على جيناتنا الوراثية ودورها في حياتنا اليومية وأنها ربما صاحبة القرار فيما يتوجب علينا أن نأكله وما ينبغي أن نتجنبه.

 وبحسب هذا المفهوم تؤثر بعض الجينات الوراثية على قابلية امتصاص واستقلاب المواد المختلفة وكذلك نوعية الاستجابة للعناصر الغذائية، وبينما تسبب بعض الأطعمة السمنة لبعض الأشخاص، يمكن أن تكون سبباً في نحافة أشخاص آخرين.



 الحمية الجينية (حمية DNA)

 اختر غذاءك وفقاً لجيناتك الوراثية صرعة علمية جديدة ما زالت في طور البحث والتجريب، ولو أنه في المستقبل القريب سيساعد هذا العلم أخصائيي التغذية في اختيار حمية مناسبة للجينات الوراثية للأشخاص وبالتالي علاج السمنة والوقاية من الأمراض المزمنة.


 تنتشر صرعة الحمية الجينية هذه الأيام بشكل أسرع من تطور الأبحاث في هذا المجال، ويروج لها على مواقع الأنترنت وأصبحت موضوع الكثير من الدعايات التجارية من قبل من يدعون قدرتهم على تفسير نتائج الخريطة الوراثية لوصف حميات غذائية. و رغم أن التحاليل الجينية الدقيقة أصبحت متوفرة على نطاق واسع، ولكن علاقة بعض الجينات بالسمنة ونوع الأكل المناسب ما زالت في طور البحث العلمي، ولم يتم التوصل إلى نتائج حاسمة حول هذا الموضوع.


 إن علاقة السمنة بالجينات تعرضت للجدل العلمي المستمر، نظراً لتعقيد العلاقة بينهما وتعدد العوامل المسببة للسمنة وتأثير الاختلافات الجينية الفردية على الاستفادة من أنواع الأغذية المختلفة.


 وفي النهاية نحن نتأثر ونؤثر في جيناتنا طوال مدة حياتنا، فجيناتنا الوراثية توجه اختياراتنا الغذائية وتؤثر في طريقة استقلاب الأغذية المختلفة. ومن ناحية أخرى فإن عاداتنا الغذائية الصحية يمكن أن تحسن من جيناتنا المريضة وتكون وقاية من كثير من الأمراض ذات المنشأ الوراثي.


 إن موضوع علاقة الغذاء والجينات أمر أكثر تعقيداً من مجرد حمية مناسبة لجيناتنا، إنه تفاعل بين عوامل متعددة كالبيئة وطبيعة الحياة والتغذية من جهة والجينات من جهة أخرى. ويمكننا استخدام هذه المعلومات في اتخاذ المسؤولية عن صحتنا وحياتنا الصحية بتناول الغذاء الغني بالعناصر الغذائية التي تؤثر ايجابياً على جيناتنا والامتناع عن كل ما من شأنه أن يحفز عمل جينات الأمراض المختلفة.


 انتهت رحلتنا بين دروب علم الجينات الشيق الذي لا تنتهي إضافاته لكل جوانب حياتنا