حسان الحديثي
لندن /المملكة المتحدةً

كانت ليلة ظالمةً في بردها حين خرجت من مطار جي اف كينيدي/ نيويورك بزيارتي الأولى قادماً من دفء الشرق الأوسط، كنت لا أقوى على سحب حقيبتي لأكثر من نصف دقيقة حتى أدسّ يدي العارية في جيبي وأستبدلها بيدي الثانية من شدة البرد حتى وصلت التكسي الذي أقلّني للفندق ذي الثمانين طبقةً في مانهاتن والذي وقفت أمامه لدقيقة اتأمل ارتفاعه وقد غار علوّاً في ضباب الجزيرة التي تمثل أكبر غابة للكونكريت في العالم.
كانت موظفة الاستقبال القوقازية السمت واللكنة -والتي استلمتْ نوبتها للتو- جميلةً ولطيفةً سيما حين طلبت منها أن تعطيَني غرفةً في الطوابق العُلى من الفندق كي أتمتع بالأطلالة على هذه المدينة الرائعة، وقد وافقتُ على الفور حين عرضتْ علي غرفة في الطبقة الأربعين ولكني حين فتحت ستارة نافذتها فوجئت ان ناطحات السحاب تحيط بي من كل جانب عندها أيقنت ان لا فرق في الرؤية في منهاتن ان كنتَ على الارض او الطبقة الأربعين.
فلا تثقوا كثيراً بلطف موظفات الاستقبال حتى تفتحوا ستائر نوافذكم

لم أستطع النوم تلك الليلة بانتظار الصباح من شدة الحماس لاستكشاف المدينة الأكثر صخباً وحيوية في العالم فسحبت الكرسي أمام شباك الغرفة وأعددت كوباً من الشاي وأشعلت سيجارتي وجلست مسترخياً أمام أضواء ناطحات السحاب المحيطة بي حتى كبس علي سلطان النوم وأنا على الكرسي الذي فضلته ليلتها على سرير الغرفة.
لا أذكر كم نمت، ولكني أذكر جيداً اني استيقظت على صوت سيارة إسعاف تمر من تحتي وحين نظرت الى ساعة الغرفة كان الوقت مبكراً ، إنها السادسة فجراً والظلام يحيط بجزيرة الكونكريت، أدنيت رأسي من النافذة لأنظر الى الأسفل ففوجئت بعدد المشاة في الطرقات انهم يسيرون افواجاً افواجاً فهؤلاء القوم يعملون مبكراً جداً، أبدلت ملابسي ونزلت على الفور الى الشارع كانت درجة الحرارة تحت الصفر بثلاث او اربع درجات وكانت الأبخرة تتصاعد من فوهات التهوية لانفاق المترو ومن أفواه الناس وعربات الباعة المتجولين على حد سواء ، لقد كان كل شي يتحرك وكأننا في ساعات الظهيرة...
كان الرجال والنساء يرتدون معاطف الكشمير الثمينة ويلفون اعناقهم بالصوف في صباح نيويورك المنجمد وكانت النساء يطقطقن بكعوب احذيتهن الأنيقة ويستعرضن حقائبهن الغالية وكأنهن في حفلة لشانيل او ديور، سيما أولئك الذين يعملون في البنوك والمصارف وشركات التأمين ومكاتب الحكومة والبعثات الدبلوماسية لدول العالم لدى الامم المتحدة.
يا الهي هؤلاء القوم يعملون مبكراً جداً ولا بد أنهم جادّون جداً فليس للّهوِ مكان لمن يصحو في هذه الاوقات المبكرة والمنجمدة.
عدت الى دفء بهو الفندق مسرعاً من شدة البرد وذهبت الى كاونتر الاستقبال لأسال عن مكان المطعم الذي يقدم وجبة الإفطار فوجدت القوقازية بكامل أناقتها وحيويتها، نظرتُ اليها وتبسمتُ حين تذكرت داخل حسن وهو يغني: "وگفة على حيلي هذا اليمر عليك"
والحمدلله انها لم تسألني عن سبب ابتسامتي والا لأحرجتني بالترجمة....
في منهاتن وحدها يقطع الصبيّ الذي يسكن في الطبقة الثمانين فأعلى، مسافةً عموديةً للنزول والصعود أطول من المسافة أفقياً للذهاب والعودة من المدرسة.
في منهاتن فقط تجد في شارع واحد أكثر من اربعين صالة للسينما والمسرح.
في منهاتن فقط تجد أنّك تتنقل بين مربعات خلقتها تقاطعات الطرقات والشوارع كأنك تعيش على رقعة شطرنج.
في منهاتن فقط تعيش على جزيرة تتصل بما حولها من الأرض بأنفاق وجسور وكأنك على ظهر أخطبوط عظيم.
في منهاتن فقط ستشعر وكأنك تعيش بين مركز مكافحة الإجرام وقسم الطوارئ لمستشفى عظيم لكثرة ما تسمعه من أصوات سيارات الاسعاف والنجدة.
في منهاتن فقط ستشعر ان ثلاثة أرباع اليتامى والأرامل والجائعين والمشردين واللاجئين في هذا الكوكب البائس كان سببه ذلك المبنى الواقع على الشاطي الشرقي للجزيرة والمسمى بـ مبنى الامم المتحدة.
أما حين تعلم انه يجب على اي حركة تحويل مالية بين اي دولتين في العالم تمر في منهاتن ستشعر حينها انك على نقطة تسيطر على اقتصاد العالم.
أمسِ حين اتصلتُ بصديقة تسكن في نيويورك لأطمئن عليها أخبرتني انها هربت من فايروس كورونا الى ميامي/فلوريدا وأخبرتني أيضاً أن الفايروس يسري في نيويورك كسريان النار في كومة القش وأن الناس تتكدس في العمارات السكنية فوق بعضهم البعض وقد خلت الشوارع من المشردين والأنيقين على حد سواء مثل ما خلت من أصوات سيارات الاسعاف والنجدة.
لست أدري يا فايروس كورونا هل العنك لأنك شتّت البشر؟
أم أقف لك احتراماً وقد حجّمت عظمة جبروت الجبابرة ولقنتهم درساً قاسياً بأن الكبير ربما يقف صغيراً أمام الصغار وضئيل جداً أمام عظمة القدير...