د. باهرة الشيخلي

العراقيون لن يتخلصوا من وباء الميليشيات الموالية لإيران إلا بمعجزة.
ساحة حرب.. من أجل إيران
رغم كارثة وباء كورونا، التي يمر بها العالم، والعراق، بنحو خاص، إلا أن الميليشيات المنفلتة الموالية لإيران في هذا البلد، باتت تشكّل خطراً على العراقيين ربما يهون خطر وباء كورونا أمامها، خصوصاً وهي تزداد انفلاتا يوماً بعد آخر.
حين نتحدث عن الميليشيات، ينبغي أن لا يكون الحديثُ بعيداً عن الابتزاز، وأخطر أنواع الابتزاز، هو ذلك الربط بينها وبين عناوين دينية يمثّلها معممون جهلاء ولصوص وعملاء، يستغلون الجهل والعواطف الساذجة ويمنحونها أوصافاً وصفاتٍ مما يجعلها في مرتبة المقدس، فيصبح القاتلُ واللصُّ والمغتصبُ، مقدساً، كما رأت صحيفة معارضة.
من أنواع الابتزاز منح هذه الميليشيات عناوينَ دينية، وهي في واقعها وسلوك قادتها وتصرفات كثيرين ممن ينتمون إليها، تشكّل إساءة إلى جوهر الدين وإلى العناوين ذات الطابع الديني، التي تنسب إليها.
ولهذا الابتزاز وجه آخر، لا يقلّ قبحاً عن وجوهه الأخرى، وذلك في إلحاق ميليشيات بالقوات المسلحة، وكثيرون من عناصر الميليشيات هذه نقلوا انحرافاتهم إلى الوحدات العسكرية، التي نُقلوا إليها، فكانوا وبالاً عليها وأساؤوا إلى القيم والتقاليد العسكرية وإلى سمعة القوات المسلحة.

وفي جميع الأحوال تظل دوافع القواعد بمنأى عن دوافع قادة الميليشيات وارتباطاتهم المشبوهة وصفقات فسادهم، التي جنوا منها الملايين والمليارات، لتأمين مستقبلهم ومستقبل أبنائهم وأحفادهم بالسحت الحرام.
موضوعيا يمكن القول إن بعض المنتسبين إلى هذه الميليشيات، قاتلوا عصابات داعش واستشهد منهم كثيرون، وهذا عمل وطني مجيد يسجل للشهداء والمقاتلين، أما معظم قادة الميليشيات فلم يعرفوا شرف القتال دفاعا عن الوطن، واقتصر دورهم على التصريحات الاستعراضية والمتاجرة بتضحيات المقاتلين ودماء الشهداء، ولكن القتال ضد داعش، لا يعني تجاوز الانحرافات التي مارسها كثيرون منهم، سواء في ميادين المواجهة أم بعد ذلك، وخاصة ضد انتفاضة التحرير وفتيانها الشجعان.
لا يختلف اثنان على أن في العراق سلاحاً منفلتاً، غير أن هذا السلاح المنفلت يثير بعض الالتباس، إذ يفهمه كثيرون على أنه سلاح ليس بيد الحكومة أو المؤسسات التابعة لها، العسكرية والأمنية.
وقد أعجبني رأي قرأته في صحيفة موجّهة إلى المتظاهرين العراقيين يقول إن المواطن العراقي يشهد، حيثما كان، أن المسلح المنفلت أقوى من الحكومة، إن لم يكن بحمايتها، وهي غير قادرة على منعه أو على معاقبته، إن لم تكن شريكته في ما يقترف من جرائم، فهذا السلاح يمتلكه مسلح منفلت ينتسب إلى جماعة سياسية منفلتة، يتلقى أوامره منها وينفذ ما يطلبه منها الزعيم أو الشيخ أو السيد أو الحاج وما إلى ذلك من عناوين، فقدت ما كان لها من معنى أو احترام، لذلك تصبح مقولة السلاح المنفلت غطاءً للانفلات السياسي والاجتماعي، وغطاءً لما تقترفه الجماعات السياسية المنفلتة من جرائم.
انطلاقاً من هذا الرأي ينبغي على الذين يعدّون السلاح المنفلت من أسباب الخراب في العراق، مراجعة هذه المقولة، لأن الجماعات السياسية المنفلتة تضم في صفوفها مسؤولين وعسكريين، وأنها بمسلحيها المنفلتين من أقوى أسباب الخراب.
الميليشيات الموالية لإيران كائنات الموت المؤكد.. وعناصرها قتلة، ولم تجد المليشيات اسما أفضل من “أبي عزرائيل”، لكي يكون من رموزها.
مبعث هلع العراقيين هو أن بلادهم مرشحة لتكون ساحة حرب بين إيران ممثلة بميليشياتها، وبين القوات الأميركية، وأن هذه الحرب ستأكل المزيد من أبناء العراق الأبرياء
كان التعذيب الاستثنائي، الذي لم ينشر في صحف الدنيا هو أحد ألوان يوم القيامة في سجن الجادرية نوفمبر 2005 حيث كان أول ممرات الموت، التي استلبت حياة عشرات الضحايا، وكان الاغتصاب من ضروبه اللامقروءة، التي لم تخطر على العقل البشري.
قدّم حفارو القبور بانوراما حافلة بمرئيات تاريخ نهاية الحياة، حيث مواكب الموت المتنقلة من أقصى قرى البصرة إلى مركزها، ومنها إلى مساحات العراق كله، وكانت صفحة القتال ضد تنظيم داعش الإرهابي مدخلا ذرائعيا لإنزال أشد الفجائع بنينوى وأهلها.
منظّرو القتل الصريح هم أصحاب العمائم السياسية: صميدعي وخالد الملا وهمام حمودي ورابعهم (صغيرهم)، الذي مازالت أصوات جرائمه تلوث فضاء بغداد.
هذه الميليشيات كلها مدعومة عسكريا وماليا من الحكومة العراقية وإيران، نشأ معظمها بعد احتلال العراق عام 2003، واتهمت بارتكاب عمليات قتل وتعذيب وتدمير ممتلكات للعرب السنّة بالعراق، خاصة في محافظة ديالى، التي تغطي المساحة بين الحدود الإيرانية والعاصمة العراقية بغداد، وبعضها نقل عملياته إلى سوريا للقتال إلى جانب قوات بشار الأسد، وها هي تشمل العرب الشيعة أيضا بجرائم قتلها الصريح.
عملت هذه الميليشيات تحت أغطية مختلفة، لكنها ظلت غير بعيدة عن معرفة السلطات السياسية والأمنية ومتداخلة معها، حتى تم تأسيس الحشد الشعبي في صيف 2014 بناء على فتوى المرجع الشيعي علي السيستاني لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، فأصبح هذا الحشد الغطاء القانوني لهذه الميليشيات التي ازداد عددها منذ ذلك الوقت إلى أكثر من أربعين ميليشيا.
في يونيو 2015، قال رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي إن ميليشيات الحشد الشعبي جزء من منظومة أمنية عراقية، ورفض وصمها بالطائفية، معترفاً أن تمويلها يأتي من الحكومة وظلت السلطات العراقية تدفع عن ميليشيات الحشد الاتهامات المتواصلة بارتكاب جرائم حرب في مناطق مختلفة ضد العراقيين، وارتكاب انتهاكات في المناطق التي تستولي عليها من تنظيم الدولة.
ودخل رئيس الوزراء العراقي المكلّف عدنان الزرفي على خط الدفاع عن هذه الميليشيات عندما أطلق تصريحات لتجنّب غضبها بتأكيد أنه لا مساس بسلاحهم، وقال، الثلاثاء 7 أبريل الحالي، إن هناك مبالغة وتضخيما في الحديث عن السلاح المنفلت، مؤكدا أنه بالخروج إلى شوارع العاصمة بغداد لن نشاهد مظاهر مسلحة.
والغريب أن هذا التصريحات تزامنت مع محاصرة ميليشيا حزب الله لوحدة عسكرية من الجيش العراقي في مزرعة بمنطقة الجادرية وسط بغداد بعد اشتباكات مسلحة، وهي الواقعة التي تؤكد أن الميليشيات المسلحة دولة داخل الدولة العراقية، بل لها نفوذ يتجاوز القوات المسلحة.
إنّ العراقيين، وسط هلعهم من جائحة كورونا، زادتهم هلعاً تصريحات مسؤولي البنتاغون وبينهم رئيس هيئة الأركان مارك ميلي، ورئيس القيادة المركزية كينيث ماكنزي، الذين أعلنوا أنهم قدّموا مقترحات لشنّ عمليات خاطفة ضد “كتائب حزب الله” العراقية الموالية لإيران المسؤولة عن الهجمات الممنهجة على المراكز العسكرية الأميركية في العراق، وأن هناك قائمة بعشرة أهداف قد تستهدفها واشنطن، تشمل فصائل أخرى مقرّبة من طهران.
مبعث هلع العراقيين هو أن بلادهم مرشحة لتكون ساحة حرب بين إيران ممثلة بميليشياتها، وبين القوات الأميركية، وأن هذه الحرب ستأكل المزيد من أبناء العراق الأبرياء.
ويبدو أن العراقيين لن يتخلصوا من وباء الميليشيات الموالية لإيران إلا بمعجزة، وذلك سبب هلعهم لأنهم يعرفون أن زمن المعجزات انتهى، وأنهم سيقدّمون تضحيات أخرى ضخمة في سبيل التخلّص من جائحة الميليشيات.