فائزة محمد علي فدعم
في الخمسينيات همس والدي في اذن أمي قائلا: غدا أن شاء الله عندنا وليمة للدكتور أكرم بشارة فقد استأجر بيتنا الفارغ الذي يقع على الشارع العام. وكان يسكن خلفه مباشرة الصيدلي حبيب فتح الله (أبو فؤاد) وفي اليوم التالي وصل الى بيتنا وكان جميل الشكل وزوجته رائعة ودودة تدعى الست مليحة وهي من الديانة الصابئية وكان زوجها مسيحيا والصيدلاني حبيب فتح الله يهوديا.
في ذلك الوقت كانت اللحمة الاجتماعية قوية وبعقوبة عائلة واحدة. وبعد تناول الغداء بدأت الأحاديث وكان تعيين الدكتور في مكان لا يتذكره أحد من أهالي بعقوبة الا القلة منهم لأنه مقابل مدرسة بعقوبة المجاورة لسكن الاستاذ طاهر المتولي والمستوصف ملاصق لمدرسة الزهراء الابتدائية ومن الجانب الآخر كان جاراً للسيد أبو اسامة مدرب فريق نادي الجيش في معسكر سعد والذي كان عندما يفوز فريقه يقف الاولاد أمام داره ويهتفون (أبو أسامه العقيد ضربته ضربة حديد)
انفصل الدكتور بعد فترة عن زوجته لعدم الإنجاب وارتبط بأخرى اسمها الست ماري. الله على أمي ماري فقد كانت في منتهى الرقة والذوق. توطدت العلاقة بيننا لدرجة كانت زياراتها لنا يوميا فقد تعلقوا بي وانا احبهم وكانت تاتي الى بيتنا بعد الظهر وهي تحمل بيديها أدوات الحياكة وتخيط لي الملايس التي يحلم بها كل طفل آنذاك وأجلس في حجرها واناديها ماما ولا أستطيع فراقها وعند الزوال تذهب إلى دارهم وكنت اصرخ وأردد أريد أهلي اريد اهلي وفي كل جمعة يذهب بي والدي صباحا إلى بيتهم وعندما ادخل بحذر لأني كنت أخاف من الهيكل العظمي الكامل الموجود في عيادة الفحص واجري الى الباحة حيث كانت ماما ماري تنتظرني بالأحضان ونتناول الفطور سوية وظهرا كنت أنام بجوارهما هي وأبي أكرم وفي العصر يأتي والدي لإعادتي الى بيتنا وفي الأعياد والمناسبات وخصوصا عيد الفصح ورأس السنة كانت تجلب لي الهدايا من بغداد ومنها سلحفاة خضراء اللون كنت أوجه تحركاتها بمقبض كما اريد واولاد المحلة يهربون منها ومن الهدايا ايضا علبة فيها ( العاب نارية ) عندما اقوم بإشعالها تنفجر فيخرج منها خواتم وورود وحلق ... وبقينا على هذا الحال حتى ازداد تعلقي بهم وكذلك هم وعندما تذهب امي ماري الى بغداد لزيارة أهلها اجهش بالبكاء فيأخذني خالي الى بيتهم ممسكا بيدي فلا ارى أحدا هناك وبعدها يقنعني بشراء لب الجوز وتفاحة مغلفة بورقة مرسوم عليها ارزة لبنان . يسحبها البائع ويضع فيها لب الجوز وأعود إلى البيت منهكة وأغفو فورا.
ولان بقاء الحال من المحال جاءت الطامة الكبرى ونقل الدكتور إلى كربلاء ولا تزال الحسرة والالم في قلبي حتى الآن. كان جميع المقربين مني يبذلون قصارى جهدهم حتى انساهم ولكني لم أستطع.
وفي صباح أحد الأيام أخذني والدي إلى كربلاء لكثرة الحاحي وشوقي لرؤيتهم في باص من الخشب وكان يهون على بعد المسافة ويقول (سوف نصل ونرى المنارة الذهب ونرى ماما ماري وبابا أكرم) وبعد عناء وصلنا فاستقبلونا بالأحضان ودموع العين وعتاب الدكتور على والدي لأنه تحمل بعد المسافة والجهد وبقينا يومين في ضيافتهم لم اوافق على العودة الا بعد ان اقنعتني ماما ماري بأنهم سيأتون لزيارتنا وعدت محملة بالهدايا والحلويات والنقود.
وبعدها انتقل المستوصف الى مكان اخر وهو مقابل (أورزدي باك) سكنه مدير المعارف (أبو قتببة) من أهالي عنة وعند تعديل مسار نهر خريسان تم هدمه مع مدرسة الزهراء وبيت أبو أسامه الذي كان فيه شجرة الكالبتوس والتي لا تزال شامخة أمام مدرسة بعقوبة حتى الان ...
0 تعليقات
إرسال تعليق