فائزة محمد علي فدعم


عندما كنت في الصف الثالث الابتدائي. عشت أجمل ايام الطفولة. ولم ارى لها مثيل. مُدلله عنيدة ولكن ذات رأي وموقف ثابت ...

في العيد كان والدي يحسب لي ألف حساب. يصحبني قبله بأيام الى بغداد وكانت اولى وجهتنا (باتا) لشراء حذاء. اما الملابس فنبتاعها من ( اورزدي باك ) ثم نعرج الى الصائغ الذي كان ارمنيا اذكر ان اسمه ( كيورك هايك ) فقد كنا زبائنه الدائمين . كنت صعبة الاختيار ولكن والدي يتحلى بالصبر والعطف الجميلين. وعندما اقرر واختار شيء اراه يتنفس الصعداء ...

في نفس اليوم بحثت في بغداد عن معطف ولكني لم أجد ما اريد فتأجلت فكرة شراءه حيث كان البديل ساعة ماركة (اولما) سوداء اللون اثارت اعجاب المُعلمات في المدرسة ...

بقيت فكرة المعطف تراودني رغم كل ما اقتنيت ...

فأقترح ابي ان نذهب إلى خياط في بعقوبة اسمه ودود هادي محله خلف (الست مومنيه) مقابل الدكتور (اسكندر رومان) وفعلا ذهبنا اليه وسأله هل يمكن ان يخيط لي معطفا؟

فقال بكل ادب: لا يوجد لدي ولكن يمكنك الذهاب الى بغداد لشراء قماش من نوع (جوخ) وسألبي لك الطلب ... وفعلا ذهبت مع والدي مرة اخرى واخترت القماش الذي كان لونه كزرقة السماء والذي اذكره كأنني اقتنيته اليوم. وفي صباح اليوم التالي اخذناه الى الخياط الذي كان صغير السن وماكنته يضعها مقابل باب المحل وعلى الجهة اليسرى كرويته (اريكة)

قلت لوالدي: لن ابرح مكاني الا ومعي المعطف وجلست على باب الدكان ولم اتحرك خطوة واحدة رغم انه كان قريبا من بيتنا ...

وبدأت المشاكسات كل حين: متى تنتهي من خياطته؟ وبعد قليل متى تكمله؟ ثم اريده الان ... والغريب انه كان صبورا ولطيفا جدا يتوعدني خيرا والمارة من امام المحل يمزحون معي والرجل صابراً عليَّ كصبر ايوب. كان احيانا يقول: بقيت الازرار. او: بقيت البطانة: ثم: علينا كَي القماش ... وعندما حان وقت الغداء ناداني لأتناول معه الطعام فقلت له: اريد معطفي. ولم اتناول اي شيء ...

وإذا بوالدي يأتي ومعه رغيفاً من الخبز في داخله الكباب الذي لم اتناوله ايضا. واخيرا في عصر ذلك اليوم ناداني قائلا: تعالي ارتديه لأرى هل يحتاج الى شيء ... ثم حضر ابي ليعطيه الاجرة.

كان اروع معطف ارتديته في حياتي. حتى أنى ركضت الى البيت وخلفي والدي تقطعت انفاسه. بقيت أياماً وانا انتظر العيد وكنت اخلدُ الى النوم ومعطفي والساعة والحذاء والاساور الذهبية والخاتم معي حتى صباح يوم العيد. ارتديتها جميعا وانا لا اصدق نفسي. ومن داخل البيت سمعت بائع اللوزينة (حلويات) ينادي فركضت رغم ان المطر كان يهطل بغزارة وقطراته كأنها حبات لؤلؤ تنزل من السماء.

كانت ايام جميلة مِلأها الابتسامة والحب والسعادة. لا ندري ماذا جرى حتى تغيرت الوجوه وتبدلت القلوب وتلوثت الافكار