مبدر المشهداني



يسكن الحاج رضوان مع عائلته (زوجته وابنتيه التوأم)؛ في بيته الكائن في أحد ازقة شارع حلب الشهير في الموصل القديمة؛ المطل على شارع الجمهورية المؤدي لجسر الحرية.
عند دخول داعش لمدينة الموصل في حزيران 2014؛ بقي الحاج رضوان في داره مثل الكثير من سكان الموصل الذين يعشقون بيوتهم؛ رغم امتعاضه من داعش؛ ودائما ما يردد مع زوجته الحاجة غاليه المشهدانيه؛ المثل المعروف (الي يطلع من داره يقل مقداره).
عند بدأ عمليات التحرير؛ وضع مقاتلي داعش؛ مقاومة طائرات على سطح البناية المجاورة لدار الحاج رضوان. فتعرض هذا الموقع الى صاروخ مما ادى الى إصابة الحاجة غاليه؛ بشظيه اودت بحياتها.
ولانقطاع السبل ولحصار وتخويف داعش للسكان؛ تم دفن جثة الحاجة غاليه في حديقة الدار؛ بمساعدة (سيد خالد) الأخ الأصغر للحاجة غاليه؛ الذي حضر من محلة المشاهدة حيث يسكن فيها ومساعدة بعض ما تبقى من شباب المنطقة؛ وجاره (السيد أبو يونس).
عندما رأى السيد (خالد المشهداني) دفاعات داعش وخطورتها على عائلة الحاج رضوان؛ أقسم عليهم الخروج معه إلى بيته في محلة المشاهدة؛ ووافقوا كمن أحس بحجم الخطر.
بقي الحاج رضوان يأمل ان يعود لداره بعد انتهاء عمليات التحرير ويعد الليالي والساعات لهذا اليوم؛ لما يعاني وبناته من حرج وخجل بسبب سكنهم مع عائله كبيره بالرغم من طيبة وحسن تعامل السيد خالد وعائلته. إلا أنه شعور كل الضيوف على وجه الأرض.
وبعد انتهاء عمليات التحرير. وفي إحدى الصباحات؛ نهض الحاج رضوان؛ فصلى الفجر مع ابنتيه؛ وقال لهم سأذهب إلى بيتي لأطمئن عليه؛ وارى قبر امكما.
وطلب الأبنتان أن يذهبا معه؛ ولم يرفض لهم الطلب؛ ورافقهم كذالك خالهم سيد خالد.
وسار الجميع في شارع الفاروق بصمت وحزن رهيب؛ وسط الركام والاشلاء؛ وازداد حزنهم؛ عند وصولهم منارة الحدباء رمز الموصل التي اصبحت قاعا صفصفا؛ ووقفا عند كنيسة اللاتين التي أصبحت هي الاخرى خرابا؛ ومروا بشارع السرجخانه الشهير؛ الذي كان يوما ما يهيل ويميل ويعج بالحركة والفاتنات والمحلات الراقية؛ التي تزينها الجواهر ولعب الأطفال وبدلات الاعراس؛ لقد تحول إلى ركام وكتل كونكريتيه يصعب المرور منها؛ وما ان وصلو دارهم؛ حتى وجدوه ركاما.
وسالت دموع الحاج رضوان وتذكر ايام وسنين عاش فيه؛ وجلسوا عند قبر الحاجة غاليه؛ وترحموا عليها؛ وقرأوا لها من الأدعية الممزوجة بالدموع والشوق.
ورثا الحاج رضوان زوجته وداره مرتجلا؛ وسط نحيب الجميع قائلا:
يادار شالوا هلج
وانتِ غديتي حجار
يحجار ظليت واكف دهر
حايط سند تحمي العرض والجار
يادار بيك اندفن
أغلى الولف غاليتي والاسرار
حاول الحاج رضوان استئجار دار؛ الا ان السيد خالد المشهداني اقسم بالله ببقائهم معه؛ فهو يعلم أن الحاج رضوان من الصعب عليه استئجار دار؛ في ظل ارتفاع أسعار الإيجارات؛ بعد أن استغل الوضع أصحاب النفوس الضعيفة.
بعدها اعتاد الحاج رضوان ولمدة ثلاث سنوات؛ ان يتسلل مع خيوط الشروق؛ قاصدا بيته الخراب وقبر زوجته الحبيبة.
يجلس الحاج رضوان على أحد الأحجار التي تناثرت من داره وينظر الى داره؛ وعادة ما يخرج اليه جاره ابو يونس ويجلس معه. (حيث تمكن ابو يونس من ترميم غرفة من بيته المدمر ليسكن فيها مع عائلته).
ودائما ما يكرر الحاج رضوان ويسأل ابو يونس؛ قائلا ألم يأتي أحد من الدولة لبناء دورهم المهدمة؟ ولكونه طيب ومن طينة الطيبين؛ فكثيرا ما يردد؛ ان الملك (يقصد الرئيس) لن ينسى أبناءه.
فيرد عليه ابو يونس: حجينا الكل ملتهي بجيبه..
واستمر الحاج رضوان على هذه الحالة لمده ثلاث سنوات بعد التحرير وهو ينتظر عطف الدولة وواجبها اتجاه أبناءها وهم بلا مأوى.
وفي أحد الايام وهو يجلس مع ابو يونس مر صبيه وهم يهتفون (أجا الريس للموصل).
تنفس الحاج رضوان الصعداء؛ واستنشق هواء الموصل القديمة بعمق؛ وقال بكل ثقه مخاطبا ابو يونس؛ ألم اقل لك ان الدولة لن تنسى ابناءها؛ ها هو جاء الملك؛ وهو اليوم يحلها.
سكت ابو يونس هذه المرة؛ الا انه اومأ برأسه صعودا ونزولا؛ وكأنما يقول:( راح انشوف)، (لا اقبض).
قام ابو يونس قائلا: أحسن شيء اروح اسويلك شاي ودخل بيته.
في هذه الاثناء جاءت سيارة عسكريه وهي تنادي ادخلوا بيوتكم؛ ممنوع أحد يبقى بالشارع؛ واقترب العسكري وزجر الحاج رضوان بصوت عالي
قائلا: ادخل بيتك.
وتلافيا لموقفه الحرج؛ وصريخ العسكر؛ ولا يريد أن يدخل بيت جاره ابو يونس؛ لأنه يعلم بوضعه وأحواله فأضطر الى التوجه الى داخل الأحجار في بيته؛ ووقف خلف باب خشبيه؛ استندت مائلة على أحد الجدران.
بعد دقائق؛ قدمت قوه عسكريه اخرى وهي تنادي:
الكل يدخل البيوت.
من دخل بيته فهو أمن ومن لم يدخل يعتبر إرهابي.
وعندما وصل العسكر مقابل الحاج رضوان؛ شاهده أحد الجنود وهو يختبأ خلف الباب المكسور؛ وقالوا له:
تعال؛ تعال؛ ماذا تعمل هنا؟ هل تريد أن تغتال الرئيس.؟
قال نعم انتظر الرئيس..
واجتمعوا عليه منهم من يفتشه؛ ومنهم من يقول له: اعترف أيها المجرم.
ونادى منادي منهم لمقره قائلا:
من 100 إلى واحد.. لقد وقع في الفخ..
لقد تمكنا اصطياد رأس من الإرهاب. وهو يحاول اغتيال الرئيس.
وجاء الرد من واحد الى100. احضروه فورا لمقر القيادة.
تم تكبيل يدي الحاج رضوان وشحطوه واصعدوه إلى مؤخرة السيارة البيك اب، تحت حراسة مشدده.
عند مقر القيادة..
الكل يقف خارجا عند البوابة الرئيسية؛ وينتظر بترقب وصول الرأس الكبير للإرهاب.
وجاءت الأوامر انزلوه وأتونا به إلى غرفة التحقيق..
لاحظ كبير الضباط وهو ينظر إلى الحاج رضوان..
ان قميص الحاج رضوان؛ قُدَّ من قُبل.
وبنطلونه قُدَّ من دُبر.
واقدامه بلا احذيه؛ فهو يمشي بالجواريب؛ جراء الشحط.
قال الضابط ما اسمك الثلاثي تكلم:
قال أسمي: رضوان إدريس عباس
هنا نهض الضابط؛ مرتجفا؛ مصفرا؛ وكأنما إصابته وعكه؛ وقال:
أليس انت الأستاذ رضوان معلم القراءة في مدرسة القحطانية.
قال نعم انا هو..
قال الضابط وما جاء بك؛ وماذا تفعل في تلك الدار الخربة.
قال هي داري دُمرت من ثلاث سنوات؛ وكل يوم اذهب إليها انتظر الملك عفوا الرئيس ليبنيها لي.
واليوم علمت ان الرئيس قد وصل الموصل؛ وانا انتظره قرب بيتي المدمرة..
وأمسك الضابط بمعلمه الحاج رضوان؛ وقَبَّلَ يَدَيَه؛ وغَسَلَ يديه ووجهه وشد مأزره وحزامه.
واعطاه نعاله ليلبسه؛ قائلا له اذهب ياعم.
ياعم ان الرئيس قص شريط جسر الحرية فقط ورجع الى بغداد؛ هو الآن في بغداد.
ياعم أتأمل من الرئيس يبني بيتك؟
قال نعم.
قال ياعم؛ والله هذا حقك على الدولة.
اذهب ياعم إلى بيتك.
ورجع الحاج رضوان ماشيا يجر اذيال الخيبة والحسرة. ومر بجسر الحرية.
ووقف هناك وتذكر ايام افتتاحه من قبل الملك فيصل.
وردد قائلا
رحماك ياملك الناس بعدك في ظنك
وأضاف قائلا بألم وحسره
يابلدا كان الحياء من سجاياه
فأصبح اليوم يغرق في بلاياه
لا صدق ولا طهر ولا قيم
فاض العُهر ليملأ كل زوياه
واختفى الحاج رضوان لمدة يومان وهم يبحثون عنه.
واخيرا وجدوه مُمَدَد خلف الباب المكسور؛ والتحق بالرفيق الأعلى في بيته المنكوب؛ وقرب زوجته الغالية غاليه المشهدانيه.
ووجدوا في يده وصيه؛ ورقة مكتوب فيها:
الى/السيد الرئيس
كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
ان الناس امانه في اعناقكم.
سيادة الرئيس؛ لديَّ أبنتان توأم.
أصبح عمر الواحدة 45سنه ولم يتزوجا.
سيادة الرئيس؛ كيف يتزوج الشاب في الموصل؛ وهو مُتَهَم ومطارد او نازح؛ وبلا عمل من سنين.؟
سيادة الرئيس بناتي امانه في عُنقك؛ واعناق الشرفاء؛ فهم بلا مأوى ولا معيل.
===========
انه ابن الموصل الذي خدم بلده وشعبه ومات. في وسط الركام.