علي الشكري


في أول يوم لي في الدراسة الابتدائية تعلمت درس لم يفارقنِ ، وكثيراً ما أرقني ، حتى أضحى مشهده راسخ في مخيلتي ، في ذلك اليوم وتحديداً في الحصة الثالثة ، خرج المعلم في ثنايا الدرس الى الإدارة بناء على طلب المدير ، فطلب من الجميع الجلوس دون ضوضاء ، ووعد بعقاب شديد لمن يخالف ، عاد فوجد الصف يضج بالصياح ، وقد ارتقى بعض الطلاب مقاعد الجلوس ، وراح البعض يرمي الآخر بالطبشور والأقلام والممحايات ، أما أنا واثنين من الطلاب فلم نغادر مقاعدنا خوفاً من الجزاء .
ضرب الجميع
واذا بالمعلم يخرج عصا الخيزران وراح يضرب الجميع دون استثناء ، من احدث الضجة ومن التزم الأوامر ، لكل منا ثلاث عصي ، فأتذكر أني جهشت بالبكاء اكثر الجميع لا لألم العصا ، ولكن لظلم المعلم الذي عمم ولم يخصص ، عاقب ولم يستثنِ ، ساوى في العقاب ولم يميز ، فتعلمت من ذلك الموقف درس لم أنساه ما حييت ، لا عدل الا عند الواحد العادل ، أما البشر فظلام جهول . وفي خدمة العلم تعلمت الدرس الثاني ، حينما كان العقاب يطال الجميع إذا ما أخطأ البعض أو خالف الأوامر ، إذا لم يتمكن المسؤول من تشخيص المذنب ” الشر يعم والخير يخص ” وياليت للخير أن يخص . في المثل الشعبي يقال ” سعيد من اكتفى بغيره ” الجميع يردد هذا المثال الذائع ولاسيما المثقف الذي لا يرغب بالتعقيب ، قناعة أو تجنباً للسجال ، وفي المثل أيضا ” غلطة للشاطر بألف ” . كثيراً ما تبحرت في تاريخ العراق السياسي المعاصر بحكم الاختصاص والرغبة في الاستزادة فلم أجده الا سلسلة من الثورات والانقلابات والحركات العسكرية والعصيان المدني والاضطرابات والحروب والحركات الداخلية ، فركنت الى حيث التجارة التي لا تكسد وإن لم تشبع ، فتاريخ العلم في العراق لم يكن في يوم من الأيام وسيلة للثراء والرخاء وان كان وسيلة للتكسب ، وبالقطع ليس اشرف من التعليم مهنة ، وليس أكثر منه أجر ، ولا أنفع منه ميدان ، به ترتفع الأمم وتتصدر ، وبغيره قد تنتعش ويتنعم شعبها ، لكنها تبقى قلقت مضطربة لا تحتمل الصدمات ، فالأجنبي الوافد راحل لا محال وإن طال المقام راغباً أو مضطراً ، فالأمة تكبر بشعبها وتقوى بطاقاتها وتنمو بثروتها البشرية ، سلكنا طريق الصدقة الجارية ، العلم الذي ينتفع به ، واذا بطارىء محب راغب زاهد وطني ، يعرض علي طريق السياسة ، فصددت عنه ، وهو يكرر من للعراق غير وطنيه ومواطنيه ومتعلميه ومثقفيه ، يردد وأنا أصد ، حتى وقع الفأس بالرأس ووقع المحذور ، وولجت طريق الصد ما رد ، بدافع الوطن ، وهاجس المساهمة في البناء ، ورداً لجميل وطن ولدنا وترعرعنا ونشأنا عليه ، وقدمنا ما تمكنا ، واذا بلعنت التعميم دون التخصيص تلاحق كل من عمل وتصدى وتبؤ ، أحسن أم أساء ، سرق أم حمى المال ، أحسن أم أساء ، حفظ أم أفسد ، أكمل أم خرب ، فكل من عمل فيها فاسد مفسد ، ملعون الى يوم الدين ، فرحنا نترحم على مبدأ كثير ما لعناه ونحن نرى فيه الظلم كله ” الخير يخص والشر يعم ” نعم اكتشفت ولو بعد خريف العمر ، ليس أجمل من أن يخص الخير ويعم الشر ،
ظلم وظلامة
وإن كان في التعميم ظلم وظلامة ، بعد أن أصبح الخير ضائع ، والنافع مهدور ، والأمين مغدور ، والنصوح جاهل ، والنزيه مغفل ، والناجح مدعي ، والمتألق كذاب ، والمبدع أفاق ، والصادق مظلل ، وكل من ولج السياسة فاسد مفسد ، ملعون الى أن تقوم الساعة ، وياليت حتى ينقلب النظام ويطاح برجاله ، وفي العراق وعلى خلاف العالم ، كلما جاءت أمة لعنت التي قبلها ، وهي من جاءت على يد الشعب ، ففيصل الأول الأول جاء ببيعة الشعب الذي خرج يهتف لملكه الوافد و بعد حين اكتشف أنه أجنبي ظالم ، فقتل أسرته وسحل نجله ونبش قبر من عمل تحت مظلته ، وبعد حين صار الحديث يدور عن لعنة الأسرة المالكة ، وخرج الشعب مهللا ومكبرا وحاملاً الزعيم على الاكتاف وهو يطيح بمن ظلم وقهر وأفقر وخلّف ، وما أن بدأ الزعيم يبني ويشيد ويقيم ويخطط ، اطيح به بانقلاب اظلم ، وراح من حمله على الاكتاف يتغنى بساحل جثمانه ، ونبش قبره والتمثيل بجثته ، ولم يكن مصير من اطاح به ، أفضل من سلفه فقد صعد لحم ونزل فحم ، ومن عاش حقبة البعث والتهليل والتبشير والتمجيد ورفع الشعارات والصور واستجداء الود والرضا ، ولو على حساب المبدأ والأهل والولد ، لا يتخيل أن ذاته من راح يوشي ويلعن ويدعي الظلامة وهو من ظلم ، ومن مجّد وبكى وتباكى وطالب بمبدأ عفا الله عما سلف ، راح اليوم يلعن ويسب ويندب ويستذكر الزائل ، واللافت أنه يعمم ولا يخصص ، فعنده كل من تبوء سارق ، وهو من ربّت على كتفيه وهو في المسؤولية ، وكل من تصدى فاشل جاهل جهول ، وهو العالم فراح يطرح وينقد ويحلل ويقدم الحلول السحرية ، وكل من أدار فاسد مفسد هادر للمال العام ، وهو الشريف النزيه المتقي ، الذي من ان تجربه يسرق حتى الهواء والمال والشجر ، وعنده العالِم المتعلم الفقيه ، جاهل أمي متخلف ، لا لشيء الا لانه خاض السياسة ولو مكره ، وهو المبتكر المخترع حلال المشاكل القادر على فك رموز ما عجز العالِم ، ويحدثونك عمن صّد وأمتنع ، وتراجع وأنزوى ، وأطلع واتعض ، فعند وعاظ السلاطين تقف كل الأمثال ، وتتراجع كل المقولات ، وتكذّب كل الحقائق وتزور كل المرويات ، فلا غرم بالغنم ، ولا خير يخص وشر يعم ، ولكن يبقى سعيد من اتعض بغيره ، فليس اجمل من أن تعيش بمبدأ مات الملك عاش الملك ، فليس أفضل من التزام البيت ، والانقطاع لغير السياسة ، والاكتفاء بمراقبة النقّادين المرشدين الواعظين الموجهين المشخصين السبابين القذافين ، فليس في العمر ما يستحق أن تلعن بسبب أو يتطاول عليك بباطل جاهل مدعي ، وللعراق رب يحميه ويرحمه ويهدي ساسته .