عبد الرازق أحمد الشاعر



علمتني التجارب أن أنتحل أي عذر لأغادر كلما شرع أحدهم في التحدث عن نفسه. فأنا أعرف يقينا أنه بمجرد أن يطلق للسانه العنان، فلن يستطيع أحد أن يلجمه. ولطالما اعتقدت أن شهوة الكلام عن الذات - حتى وإن كانت ذاتا وضيعة - أقوى وأعنف من حاجات الجسد مجتمعة من طعام وشراب وجنس، حتى وقع تحت يدي - وبالصدفة البحتة - بحث يتناول تلك العادة الرذيلة.
يؤكد ريتشارد جولسون (أحد الأطباء النفسيين الذين أشرفوا على الدراسة) أن التبجح ليس شرا في ذاته، لأنه يعبر عن الاعتداد بالذات والثقة بالإنجازات، وهي أمور لا غنى عنها لتحقيق السلام النفسي ومكافحة المخاوف والوساوس. لكن المشكلة تكمن عند أولئك الذين تقع آذانهم تحت سطوة أفواه المتبجحين. كما أن وجود المناخ الخصب للروايات المسهبة، يغري المتبجح بخلط كثير من الأكاذيب مع بضاعته الكاسدة ليسوق نفسه وكأنه ملهم الجيل أو وحيد العصر.
والمشكلة الأكبر أن أمثال هؤلاء يميلون لتصديق أكاذيبهم حول أنفسهم حين يصدقهم الآخرون، فتنتفخ أوداجهم وتعلو عقائرهم ويكتسبون ثقة مفرطة، مما يجعلهم غير مبالين بشعور من تحت أيديهم من المستضعفين. وغالبا ما تكون هذه الفئة أقل حظا من الفهم أو الوعي أو الشخصية. فإذا اجتمعت السلطة والتبجح في شخص ما، أصبح مرشحا للنرجسية والعدوانية إزاء من هم دونه.
للتباهي لذة لا يعرفها إلا أصحاب السيادة والفخامة والرتب، وهم على أتم استعداد للحديث المسهب عن إنجازاتهم المدعاة وبطولاتهم الكاذبة حتى وإن كان في مجالسهم من يدرك كذبهم وادعاءاتهم الرخيصة. ويعرفها الإعلاميون الذين ينفق رجال الأعمال على ألسنتهم ما يفوق ميزانيات جامعات عريقة في عالمنا الثالث. كما يعرفها الزعماء الذين لا راد لقولهم ولا معقب لحكمهم من قادة منطقتنا الحزينة. وكذلك يعرفها الخطباء على المنابر وقد رأو رؤوس المصلين تحت أقدامهم شاخصة وكأن عليها الطير.
للتبجح لذة - كما تؤكد الدراسة - تعادل لذة الجنس والطعام والشراب. فقد تبين من خلال المتابعة الحثيثة أن الحديث عن الذات ينشط خمسة أماكن في الدماغ لا تنشط إلا عند ممارسة الإنسان لحاجاته الأولية. كما أكدت دراسة أخرى أجريت على 131 رجلا تقدموا للعمل بإحدى الشركات على موقع أمازون أمرا أكثر إثارة. ففي معرض وصفهم لمشاعر الآخرين ومشاعر جلسائهم أثناء التبجح، أفرط هؤلاء في وصف سعادة الندماء بما تفتق عنه ذهنهم العبقري من حكم وعبر. وفي المقابل عبر معظمهم عن سخطهم وتبرمهم من جلسات جمعتهم بأناس لا يملون من التحدث عن سجاياهم وإنجازاتهم. وهو ما يعني أن غالبية الناس يفتقدون جزئيا أو بالكلية لموهبة التقمص التي تجعلهم يقدرون مشاعر غيرهم ويقفون في أحذيتهم كما يقول التعبير الإنجليزي.
وقد ذكرتني تلك الدراسة بقصة شاب ذهب للخارج لنيل شهادة الدكتوراه. وبعد سنوات من الغياب، عاد الشاب ليتصدر المجالس ويفتي الناس في أمور حياتهم، ويذكر جالسيه - بمناسبة وبغير مناسبة - أنه خريج أكسفورد وأنه قد تفوق على الإنجليز في عقر دارهم واستطاع هزيمة الغربة والفقر، وأنه ما كان لينال هذه المكانة لولا مواهبه الفذة وقدراته التي عقم الأقران أن يمتلكوا مثلها
كان والد الشاب ينظر في خجل إلى شفتي ولده وملامح جلسائه، فيشعر بحياء شديد لأنه كان يقرأ في وجوه الناس التبرم والسخط، ولربما نظر بعضهم إلى بعض وعيونهم تردد :"عدنا!"
قرر الوالد الحكيم أن يعلم ولده درسا في الأدب، فقال له ذات يوم: "لقد نلت شهادة عليا من الغرب يا بني، وأنا شديد الفخر بك. لكنني أريدك أن تحدث الناس حين تلتقيهم المرة القادمة عن مآسي الإنسان." نظر الولد في دهشة إلى وجه أبيه المتحمس، وقال: "لم ندرس شيئا عن الإنسان يا أبي. درست التاريخ والجغرافيا وعلوم الفلك والهندسة والطب، ونلت شهادة عليا في الاقتصاد من أرقى جامعات العالم، لكنني لم أدرس شيئا عن الإنسان." عندها، طلب منه أبوه أن يمتنع ثلاثة أيام عن الطعام. ومر اليوم الأول، فزار الحكيم ولده، وسأله: "ماذا تعرف عن بؤس الإنسان يا ولدي؟" فأشاح بوجهه. وفي اليوم الثاني، تبرم الولد بسؤال أبيه، وقال في حدة: "قلت لك لا أدري." وفي نهاية اليوم الثالث، قال له أبوه: "ماذا تعرف عن بؤس الإنسان يا ولدي؟" فقال الشاب في لهفة: "أطعمني أولا، واسأل ما شئت."
لن يستطيع وزير حصل على أرقى الشهادات من أوروبا أو أمريكا أن يشعر بمعاناة الفقراء يا حكام عالمنا الثالث. ولن يستطيع أن يتحدث بلسانهم مهما ثناه أو عصره في محيط فمه، فكيف تطلبون من وزير التموين أن يراعي محدودي الدخل؟ وكيف تناشدون وزير المواصلات أن يرأف بحالة الطلاب بائعي الفريسكا؟ وكيف تنتظرون من وزير التعليم أو وزير التعليم العالي أن يأخذ في الحسبان محدودي الدخل من الغالبية المطحونة من أبناء الشعب؟ هؤلاء يا سادة لا يستطيعون إلا أن يتصدروا المجالس ويتحدثوا في القنوات الفضائية عن إنجازاتهم وبطولاتهم التي يختلط فيها الحق بالباطل والصدق بالكذب. لكنهم لن يستطيعوا أبدا الشعور بأحاسيس فتاة ظلت طوال فترة الدراسة وحتى أيام الامتحانات تساعد أمها في بيع الأحذية لشراء الدواء لأبيها مريض السرطان. كيف يتحدث خريجو الجامعات الأجنبية بلسان مصري مبين، وقد نشأوا في مجتمعات أخرى لا تتحدث فقرنا ولا تفهم أوجاعنا. لو كنت رئيس دولة في عالمنا البائس، لجعلت وزرائي من بائعي الفريسكا، وقضاتي من أبناء المرضى والأرامل لأنهم الأقدر على التحدث عن معاناة الإنسان وبؤسه، والذي يزداد يوما بعد يوم.