هيثم الزبيدي


"صانع المحتوى" البسيط هذا غير متكلف وتلقائي عادة. اللهجات المحلية غالبة، وعين المراقب الذكي حاضرة. والأهم أن آخر همّه، أو همّها، الشأن العام والكلام الكبير الذي يبعث على الملل.
الصولو تغيّر إلى منصات الإعلام البديل
يواجه الإعلاميون المحترفون، وخصوصا ممن تغريهم شاشات الفضائيات، إشكالية حقيقية. سادت برامج الحوار ثم بادت. استهلكت الفضائيات عددا كبيرا من السياسيين والمثقفين ممن يمكن التحاور معهم في عالمنا العربي. قالوا ما عندهم تقريبا في كل فضائية متاحة. ثم ملّت الناس.
البديل جاء من الإعلامي “الصولو” أو الفردي. شخص واحد يجلس أمامك ويتحدث. لا أذكر من بدأها، لكن محمد حسنين هيكل كان يظهر في آخر فترات حياته بهذه الصيغة، وربما سبقه حمدي قنديل. ثم صار الجميع يقبلون على هذا النوع السهل من “الإعلام”. المونولوج يبدأ ويستمر لربع ساعة أو نصف ساعة في قضية أو أكثر. ثم ملّت الناس.
الصولو تغيّر إلى منصات الإعلام البديل. تحول البعض من أغلقت في وجوههم منصات الفضائيات التقليدية إلى يوتيوب وفيسبوك وإنستغرام. شيء شبيه شكلا بما كانت الفضائيات تقدمه، لكنه بدائي بعض الشيء تقنيّا. السبب أنه ليس عرضا لإعلامي واحد، ولكنه عرض شخص واحد يقوم بكل شيء. يثبّت الكاميرا ويدقق الإضاءة ثم يجلس ويتحدث ويسجل ويمنتج ويحمّل على يوتيوب. الشأن السياسي غالب، وبعض الفضائحيات والقال والقيل. لا يزال البعض يحافظ على نجوميته ويستطيع استقطاب عشرات الآلاف من المتابعات وأكثر. المقال المكتوب صار مقالا بصريا. مونولوج بالنهاية. الناس لم تملّ منه بعد.
ما لم يحسب الإعلاميون المحترفون حسابه هو عالم البساطة و”قلة الاحتراف”. هذا عالم البسطاء ممن يتجولون بين الناس ويسجلون ملاحظاتهم ثم يتحدثون عنها بأريحية بعيدة عن السياسة وفي قلب الحياة الاجتماعية اليومية. “صانع المحتوى” البسيط هذا غير متكلف وتلقائي عادة. اللهجات المحلية غالبة، وعين المراقب الذكي حاضرة. والأهم أن آخر همّه، أو همّها، الشأن العام والكلام الكبير الذي يبعث على الملل. أنظر إلى الشاب التونسي “حمة صانع المحتوى”، يتحدث عن أمه أو أخته أو خروف العيد لتدرك حجم مأساة الإعلامي المحترف. قد يمل الناس من شخصية من “صنّاع المحتوى”، لكنهم سيجدون ضالتهم في مكان آخر.
أين تكمن مشكلة الإعلامي المحترف؟ المشكلة متعددة الأوجه. تبدأ من الموضوع الذي تفرضه الأجندة السياسية للفضائية، وتمرّ في انعزاله عن الناس وجلوسه بعيدا عنهم بعد أن تحول الإعلاميون إلى موظفين مكتبيين ولا يتحركون إلا ضمن حيّز محدود. حيز من التغريدات ورسائل الواتساب. هناك فريق يعمل معه، وعادة يعتمد الصولو على باحث ومعدّ أو أكثر. هو لسان هؤلاء، وهم يستسهلون و”يسلقون” وهو يردد. الفكرة نفسها صارت شاحبة. الملل يسبق حتى البدايات.
الآن يواجه الإعلامي أزمة. كيف يمكن له أن يسترعي الاهتمام؟ كيف يستطيع تبرير أن العدد المتواضع من المتابعين له قد لا يزيد عن الألف من مجموع 400 مليون مشاهد عربي محتمل، أمامصانع المحتوىالبسيط والمجاني الذي يستطيع أن يستقطب عشرات الألوف وربما مئات الألوف على منصات يوتيوب وإنستغرام وفيسبوك؟ إنها إشكالية حقيقة تستحق النظر. أضف على ذلك أن فكرة الفضائيات الإخبارية/السياسية نفسها مشبعة وأن الإنتاج الترفيهي هوالملكهذه الأيام. الإخباريات صارت نسخا متشابهة من بعضها، والضيوف جوالون ومكررون، والكلام دعاية. في عالم الترفيه والمسلسلات، وخصوصا بعد دخول تقنيات البث التدفقي، تبدو الفضائياتموضة قديمة، هي وأثاثها الخبري والبشري. أمام هذا الملل، ماذا يفعل إعلامي مهمته صناعة المحتوى أمامحمة صانع المحتوى؟