الكاتبة والناقدة التونسية :سميرة مسيخ


قبل أن نخوض في النص يستفزنا العنوان للوقوف عنده باعتبار أن العنوان هو البوابة الرئيسية للنص المكتوب الأدبي أو المسرحي وهو ايضا النقطة الأولى الذي يلتقي فيها القارئ مع النص قبل الخوض في أعماقه وحسب ما تقدم في عنوان المونودرام المسرحي ( موعد مع الشمس) أنه يحمل منذ الوهلة الأولى علاقة ترابطية بين مجالين, مجال الموعد الزمن وهو الواقع _ لكنَّ مجال الزمن غير معلن قد يحيل الى جميع الأزمنة _ بالتالي الى الإطلاقية.

اما المجال الثاني العلائقي _الشمس _ فيمثل المستحيل والخيال وغالبا ما يكون الموعد واللقاء على مستوى واقعي مع شخص آخر أو أكثر والموعد جاء في النص بذكر علامة ترابطية " مع " والمعية تفيد طبعا العلاقة مهما كانت شكلها والشمس تصبح شخصية رغم استحالتها يوظفها الكاتب للمناجاة ويضعها في لقاء مفتعل لطلب المستحيل باعتبار الشمس تخرج عن صفة الانسانية لكونها نجم طبيعي في السماء تحمل عدة وظائف النور الاضاءة الحرارة حتى أصبحت تحمل معاني الجمال العدل والمستقبل الجميل باعتبارها تحمل قدسية في المرجعية العربية الاسلامية بقوله تعالى " والشمس وضحاها وقوله تعالى والشمس تجري لمستقر لها .... " لتصبح مصدر الهام الانسان وخاصة الفنان والشاعر لتواتر استعمال الشمس في الشعر العربي خاصة  بسبب تلاحم الشعراء العرب بالمناخ الصحراوي الحار وملازمة هذا النجم المستمر فضلا عن كونه يعد الهاً في كثير من الديانات الوثنية القديمة ففي الحضارة الفرعونية اسمه " رع " وفي الحضارة البابلية القديمة هي اله " شمش " وفي المجوسية والزرادشتية تعد المصدر لمعبودهم " النار " وقد استأنس الكاتب في توظيف الشمس كملاذا للحكي والمناجاة و الترجي ويتوسل الشخصية الشمس قائلا : يسوقني الحنين الى حضن يملؤللي دفئاً الى نور وجهك ليضئ الكون من حولي . إلى أذرع تلمس جسدي فتعود لي الحياة من بعد الموت ..."

اذن كل هذا الترجي والتوسل تبغي الشخصي من خلاله تغيير المستقبل الانساتي عن طريق الهدم واعادة بناء جمهورية أفلاطونية فاضلة في لقاء طاهر قدسي بين الذات والمعنى. اما مستوى النص طبعا هو يستجيب لقواعد الكتابة المسرحية من اشارة ركحيه وحوار ذو وحدة مستقلة, فبالنسبة للاشارة الركحية غنية بوصف الجو العام المشهدي والمهيأ للعرض ينفتح بمعزوفة العرض الحزين ومؤثر صوتي العاصفة في الفضاء الفارغ يسلط عليه الضوء الأحمر وهو لون حار يحيل إلى الرغبة في الفعل وممارسة الطقس المنفرد في الخفاء الذي يمارسه ممثل نكرة لا يحمل هوية ولا حرفة ووظيفة التمثيل وهو ما يطرح عدة أسئلة لماذا جائت الشخصية الممثل دون تعريف ؟ هل من خلاله يلبس الكاتب ثوب مخفي يستنطق الممثل الذي يسكنه؟ هل ان الكاتب يلتقي الشمس ليشتگي لها وجع الممثل؟ ام يشكي عذابات البشر عبر العصور ؟ هل هو فيلسوف؟ ام هو فلاح ؟ ام هو فنان  او محامي ؟ وغيرها من الأسئلة التي راودتنا في قراءة هذا الاختيار الذي يحمل خفايا مبطنة لوجود ممثل نجهل تاريخه وينطلق منذ ظهوره على الركح في الفعل في جو حزين صاخب في الفضاء الفارغ اي في العبث منذ رفع الرأس واكتشاف العالم وكانها بداية الولادة وتأمل أحداث وصخب هذا العالم والهوس في البحث الحركي لتحقيق التوازن الذي استحال في تحقيق الوجود الأسمى الطاهر لينصهر هذا الكائن في مرحلة الجنين في حركة تجلي تقرب الى الرقص الصوفي كل هذا الصخب يدعم الكاتب ذلك باستعمال موازي للحركة جمالية الفن السينمائي ليزداد الجو العلم في حركة تصاعد بعرض ذلك باستعمال موازي للحركة جمالية الفن السينمي ليزداد الجو العام في حركة تصاعد بعض الصور التي تحيل الى الشهادات الحية للواقع المرير بالتالي استعمال الفن السينمائي في المسرح تحيل الى مرجعية المسرح السياسي البيسكاتوري والتبريشتي خاصة.

الاشارة الركحية لهذا النص تحمل وصف مفعم حتى القارئ لا يجهد نفسه في عملية الفهم والاستيعاب وكأن الكاتب هيا القاري للفرجة والاستمتاع منذ الوهلة الأولى طبعا في المقروء وهو هنا يذكرنا بكتابات سعد الله ونوس الذي لا يتعب قارئه في بناء الصور اثناء القراءة. بالنسبة لمسار الحوار المكتوب باللغة العربية الفصحى التي هي لغة القران وهو تثبيت الانتماء لثقافة عربية تقدس مرجعية النص والمحافظة عليه كقيمة مبدئية في الكتابة أمام الصراع القائم منذ توافد المسرح عند العرب بانقسام شق مناصرا للغة العربية الفصحى باعتبارها اللغة الأم والشق الذي ينحاز الى اللهجات العامية لكونها الأقرب إلى قلوب الناس واعتماد الكاتب اللغة العربية الفصحى لرعاية بلاغتها في الوصف المعاني والمحاكاة.

والسرد في الكتابة المسرحية مرده هو خطاب شخصية الممثل في موعد تجلي مع شخصية الشمس هذا الخطاب مشحون بشعور الاشتياق واستعمال اسلوب التكرار للتعبير عن شدة غياب الشمس عن الممثل وقوة اشتياقه لها في بداية اللقاء بقول الشخصية " اشتقت اليك ... اشتقت اليك " موظفا اداة النداء " أيتها الشمس " علها تستجيب لندائه, كما يترضرع الممثل للشمس في حالة خشوع في خطب عذري للدين المسيحي والترفع بالشمس الى رتبة السيدة مريم العذراء قال " أيتها العذراء تعالي " ونلتمس في هذا الخطاب انزياح عن الانتماء للدين الاسلامي بالتوسل الى العذراء المقدسة لشدة علالته بالشمس وكما يفيد هذا التوسل اطلاقية     الخطاب الانساني والكوني.. هذا الإنسان العبثي تارة متأصلا في دينه وتارة أخرى منفصلا عنه لتحقيق المبتغى في الوجود الأسمى.

لكن هذا التوظيف العذري ينقلب في النص من انتماء مسحي الى انتماء اسلامي بقول الممثل " لم يكفي انا کنا تقتل .. قبل وبعد الاسلام ... لم يكفي قتل الحلاج" ... طبعا يعتمد الكاتب في نصة عنصر التشويق والتلاعب بالنفس الروحي والمعتقد لدى القاري, هذا مرده الترفع بالشمس وبعذريتها ولكونها تغرب تشرق من جديد ولعل في الشروق تكمن العذرية والولادة والممثل ينادي الشمس العذراء في زمن النهار وهي احالة ضمنية للاطار الزمني للنص وقد يكون بالتحديد في زمن بزوغ الشمس وشروقها في حركة ربانية اذ يقترن هذا البزوغ الافتراضي بداية الخليقة وارتكاب الجريمة الأولى الأمر الذي دفع بالشخصية وهي في طورها الأول الى التضرع ومناجاة الشمس حتى توارثت الأجيال نفس المعاناة ونفس المصير وهذا ما يتجلى في حوار الشخصية " أورَثَنا قابيل اللغة " قد تكون فرصة حاسمة للنداء في اللقاء في موعد تفرضه الشخصية لشدة وجعها واستحالة مواصلة الحياة في الدمار الكوني والقيمي الأخلاقي للارض يقول الممثل " سحقت الحروب ارباب الشجاعة ... قلت الشهوة أطفال البراءة ... وسلبت العفه ومات الضمير ... لقد أكل الجرذان المحصول ... واستباحت الثعالب دماء الأوز ..واغتصبت النسور أصوات البلابل " نلتمس في مجال الحوار تواتر النفس الملحمي في تصویر رؤی العالم ويتجلى هذا التصوير في الاستعمال المتواتر للحقل الدلالي للحرب في صورتها الشمولية الكونية في المجال الجغرافي واستغلال الثروات وانتهاك الحرمات في المواقع المقدسة واغتصابات جسدية وفكرية وطمس الهوية بالتالي خلق انسان وعالم هجين, انن كان النفس الملحمي للحرب والدمار الذي استمده الكاتب من التاريخ الواقعي للعالم بذكر بعض من المواقع في نفس شعري يزيد من صراع الشخصية منها ما يقول : " لقد نسيت الطيور هجرتها الى لايلاند ... لقد تحولت جزر المالديز الى موانئ حربية . وتفجرت شلالات نيفارا الرائعة وضاع الأمان ... لقد تفرقت قوافل الحجيج فلن يطوفوا هذا العام ... " بالتالي الخراب الذي وصل اليه العالم من حروب دينية طوائفية جغرافية وبائية ... حالت دون مواصلة العيش في كل هذا الدنس.

 أما على مستوى الصراع الدرامي في مسار النص يستهل بنفس هادِ في بداية اللقاء بنفس هادى مشحون بكل اشكال الخشوع وكأنه الممثل في بداية تعلمه الصلاة في لقاء روحي للخالق ويتجلى ذلك منذ الاشارة الركحية في وصف المجال الحركي " ممثل يبدأ بالتحرك يرفع رأسه باتجاه السماء " ثم " يهمس " كذلك في مجال الحوار " أيتها العذراء ... تعالي اطلي علي من شرفتك العالية . ارفعي النقاب وأظهري ذلك الوجه البهي ... غادري كهفك المظلم الكئيب ... بالتالي كان الاستهلال قصير في خمس جمل حوارية ليدخل الممثل منذ الجملة الحوارية السادسة في الشكوى والتضرع تقريبا الى حد البكاء في الصورة البكائية نشاهد تجليات التعازي للطقوس الحسينية  حتى يرتفع مستوى الصراع الى التفاعل الحواري والحركي والانفعالي " يدور في أرجاء المسرح " في رقصة صوفية ينادي فيها الممثل الشمس والخالق " تعالي ... تعلي ... تعالييي ... " ولوحظ تواتر اعتماد صيغة الأمر بالقول على سبيل المثال لا الحصر " تعالي . أطلي . قطعي . أعيدي . أشرقي . أرفعي . أكسري .... " وهي أغلبها أفعال تدل على القوة الجبارة التي تستحيل على الانسان الضعيف النطق بها, كما يتجلى الارهاق الروحي والحركي على الممثل في ذروة الصراع الدرامي بالاغماء " يقع مغشيا عليه " ... 

أخيرا يمكن القول عن هذا النص المونودرام المسرحي مشحون بكل المعاني والدلالات التي استفزتنا عند القراءة مما دعانا الى تفكيك هذه المعاني التحليل وفهم شفرات النص لنصل في الأخير الى عملية التصنيف لتقول أن هذا المونودرام يحمل تیارات مسرحية متنوعة نلتمس فيها الكتابة الاغريقية تحديدا في صورة البطل التراجيدي في علاقته بالاله وهي علاقة وثنية في الظاهر اما باطنها يكشف علاقة روحية ذات المرجعية السماوية في حركة المقول الشاعرية, ثم نلتمس من جهة أخرى الكتابة الشكسبيرية التي لا تخرج عن مفهوم البطل التراجيدي بل تزيده المعنى الانساني في علاقته بالوجود, اذ يظهر ذلك في صورة الممثل الحامل لفلسفة وجودية يبغي منها الترفع بالوجود الإنساني. وهناك التماس ايضا لمرجعية المسرح السياسي البرشتي في اعتماد تقنية السرد وتوظيف تقنية السينما في معرض صور العالم وهو توظيف للاقناع يحمل فكر التغيير أو البراکسیس من منظور مارکسي حتى لا نستثني ايضا التيار العبثي الذي وظفه الكاتب في النص وهو عبث خرج عن منطق الشخصية أو الحوار المعتمد وانما في صورة العالم العبثية اذن هذا النص لا يستقر في التوظيف ليتصنف في الكتابة المسرحية التجريبية في مخبر يصنعه الكاتب لتحرير الكلمة في أوطان فاسدة باعت الرسالة وعانقت التطبيع.