فائزة محمد علي فدعم


هذه قصة واقعية عشت احداثها وانا صغيرة ولاتزال في مخيلتي رغم كل تلك السنين وليس القصد من نشرها الترويج لحزب او فكر او سياسة . لكنها مجرد ذكريات عن تلك الايام ...


كان النسوة يجتمعنَّ كل اسبوع او شهر حسب الرغبة في دار احداهنَّ وتسمى هذه الزيارات ( القبولي ) والسيدة ام عدنان زوجة السيد رفيق (العلمدار) تسكن في احد بيوتنا وزوجها يعمل ملاحظ في بلدية بعقوبة ولهم  بنات كبيرات اصغرهنّ صديقتي التي تدعى ميس وكنت العب معها دوما . والدتها بارعة في صنع الكيك فقد كانت المعجنات حديثة العهد آنذاك واكثر نساء الضباط في معسكر سعد هنّ من صديقاتها المقربات وكانت ابنة احداهنّ اسمها بان تلعب معنا ولا تزال في مخيلتي حتى انني اطلقت اسمها على احدى بناتي لكثرة حبي لها . وكنا نحن في ذلك اليوم من المدعوين للقبولي . وعندما عدنا مساءا رأينا بعض الضيوف من النساء وهنَّ جارنا الذين كانوا بانتظارنا علما ان بيتهم على الشارع العام والجار الثاني بيته يطل على نهر خريسان وبين الدارين جدار واطئ حيث تستطيع العائلتان التحدث مع بعضها بسهولة وفي نفس الوقت كان الجار الثالث يسكن قريبا منهم هو مدير الشرطة في ذلك الوقت السيد عبد الرزاق عبد الغفور ( ابو وليد ) من اهالي الرمادي . ذلك الانسان الشهم الرائع الكريم ابن الاكارم .


اخبرتنا احداهن ان اولادهم تم القاء القبض عليهم بتهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي وهم يتبادلون المنشورات من على السطوح لأننا كنا على علاقة وطيدة بالسيد مدير الشرطة فطلبنَّ منها التوسط لإطلاق سراحهم . كان ابو وليد انسان عطوف جدا حتى انه قال هذه نزوة شباب واطلق سراحهم ومرت الايام وبعد فترة جاءت والدة احدهم مسرعة مرة اخرى وتحت عبائتها كيس مملوء بالأوراق ورمته وهمست في اذن والدتي بكلمات لم افهمها فأسرعت والدتي بإخفائه ولكننا ليلا سمعنا بمداهمة وتفتيش الدارين لكنهم لم يجدوا فيهما شيئا مما كانوا يبحثون عنه لان الكيس عندنا وبعد شهرين ايضا اعادة الشرطة الكرّة ولكن قبض عليهم متلبسين .


وبعد وساطة ايضا افرج عنهم بكفالة وكانت والدتي تنصحهم لانهم معروفين بميولهم الماركسية وتقول ياولدي ماذا تطلب الشرطة منك فيضحك احدهم ويقول كلمة تخرجني من هذا المأزق وهي كلمة (نابذ ) وفي الحقيقة انا لا افهم معناها فتقول والدتي ولا تعرف ماذا يقصد قل لهم نابت وهكذا استمر الحال شهور . مرةً يدخلون السجن واحيانا افراج واخرى تعذيب وفي احد الايام والدة المدعو ( س )  كانت قد سألت والدتي هل لايزال كيس الاوراق معك وانا كنت اسمع الحديث الذي يدور بينهما حتى اخذني حب الاستطلاع فاخذت الكيس ليلا لأقرا مافيه خلسة وتكرر ذلك كل يوم بعد ان ينام الاهل . لم اكن قبلها اعرف ماركس ولا ستالين ولا لينين ولاتيتو او القيصر ولا ثورة البلاشفة او لينين غراد ولا روسيا ولافهد او المنجل والجاكوج ولا وطنٌ حرٌ وشعب سعيد .


وعرفت من خلال قراءة الاوراق عشرة اشخاص منتمين للحزب رغم اني صغيرة ويوما فاجأت احدهم بقولي انت (شيوعي ) طبعا انا لا اعرف معنى شيوعي فمسك فمي وادخلني بيتنا وقال (معوده تريدين يحبسوني الشيوعية خوش ناس ) وبعد ايام جائت امه لأخذ الامانة ... كانت البيوت في ذلك الوقت ليس فيها بويلر او سخانات لتدفئة المياه فقد كان الحمام يسخن بالحطب فاخذت الكيس وجلست امام النار وكنت اخذ ورقة ورقة واحرقتها جميعا ولما بحثت والدتي عنها لم تجدها فاعتذرت لها واخبرتها ان ابنتي قامت بإحراق المنشورات وكنت كلما اخرج او اجلس في باب الدار يتوعدني ( س ) ويقول لماذا احرقت كتب المدرسة خالوا ؟


وللاسف كانت نهاية اولهم الانتحار في مكان يطلق عليه الغابات . كان انسانا رائعا وخلوقاً اصيبت على اثرها زوجته بحالة نفسية لازمتها طوال حياتها وزملائه التسعة الاخرين كان مصيرهم ما بين الهجرة الى الخارج او التوبة او اخفاء الانتماء او الانتقال الى محافظة اخرى ولانزال على صلة قوية بجميع عوائلهم الذين نحبهم ولهم معنا تاريخ عريق وحياة وذكريات جميلة  ...