إبراهيم الزبيدي



الواقع الحالي لا يوحي بقدرة الكاظمي على تحقيق اختراق بسبب سياسته القائمة على لعبة مسك العصا من وسطها مع عصابات وقحة لا ينفع لردعها غير يدٍ من حديد.
عراق جريح يبحث عن الحرية
ليس هناك شك في أن الانتخابات القادمة يمكن أن تُحدث تحسنا في الوضع العام العراقي، وترفع عن كاهل العراقيين بعضا من الغم والفقر والخوف، وتكسر بعضا من سطوة القوى والأحزاب الطائفية والعنصرية الشيعية والسنية والكردية التي لن تتخلى بسهولة عن أمجادها التي حققتها بسلاح التضليل والتحشيد الطائفي والعنصري، وبإرهاب المعارضين.
من المؤكد أن أعدادا كبيرة من المواطنين في محافظات الوسط والجنوب، وربما في محافظات الوطن الأخرى ذات الأغلبية السنية والكردية، قد استيقظ فيها الحسُّ الوطني الأصيل، واكتشفت أن الذين أخطأت في السابق ومنحتهم أصواتها وجعلت منهم رؤساء ووزراء وسفراء ومدراء وأصحاب أحزاب وميليشيات ومصارف وعمارات ومزارع وقصور، هم الذين جوعوها وأمرضوها وأرهبوها وباعوا حاضرها ومستقبلها، وثرواتها وكرامتها لمن يدفع لهم أكثر من أجهزة المخابرات الأجنبية، وصار أولَ المطلوب منها أن تسحب من تحتهم الكراسي التي لا يستحق أيٌ منهم أن يلمسها ولا أن يجلس عليها.
ولأن أحزاب السلطة وكُتلها وتياراتها وميليشياتها تعرف ذلك جيدا، فإنها مضطرة لأن تكون أكثر شراسة وعدوانية ودموية، وأشد تصميما على منع حدوث شيء من هذا القبيل، بأي ثمن، حتى لو كان بحارا من الدماء والدموع، وكثيرا من المؤامرات والدسائس، وستصبح الجماهيرُ الغاضبة المسالمة العزلاء من أي سلاح هدفَها الأول، ولا توجد حكومة قوية يمكن أن تحمي مواطنيها من انتقام الكواتم وقنابل الغاز السام.
نعم، قد تصبح الانتخابات المبكرة التي بشّرنا بها رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، إنجازا وطنيا مهما ولكن إذا ما وفّر لها، هو ومعه حكومتُه وقواتُه المسلحة، بيئةً صالحة تضمن إجراءها دون تلاعب وتزوير.
ولكن الواقع الحالي لا يبشر بخير. فهناك أمران لا يوحيان بقدرة الكاظمي على تحقيق اختراق من هذا الوزن والنوع. الأول هو نعومتُه وسياسته المفضلة القائمة على لعبة مسك العصا من وسطها مع عصابات وقحة لا ينفع لردعها غيرُ العزم والحزم، وغير يدٍ من حديد.
والثاني أنه، حتى لو أراد المواجهة الحازمة الحاسمة معها، لن تنجده قواتُه المسلحة المخترَقة المسيَّرة بالحشد الشعبي وبإيران، ولا أميركا، ولا أي قوة خارجية أخرى، ما دام لا ينحاز صراحة وبوضوح إلى الشارع المنتفض الشجاع.
وفي ظل التدخل الإيراني العملي الراعي لخيول الدولة العميقة، والمهيمن على أهم مفاصل الحكومة والبرلمان، لا يمكن التحكم بمسار الانتخابات وضمان نجاحها.
ثم إن وجود البرلمان الحالي الذي يُنتظر منه توليد قانون انتخابٍ معافى وهو نفسُه غير معافى، لن يسعفه بقانون انتخابي جديد يعين الجماهير على أحزاب السلطة، ويمهد لسقوطها بعد هذا التبدل الهائل الملموس في مزاج الناخبين.
وبعد عقبة البرلمان يأتي دور المال السياسي المسروق، محليا، أو المتدفق من وراء الحدود والذي تريد به الدولُ المانحة تمكين أحزاب السلطة من شراء الأصوات، مستفيدة من حالة الفقر والعوز التي قد تجعل شريحة واسعة من الناخبين فريسة سهلة لمن يبيع ويشتري.
أما أخطر العقبات فهي حالة الجهل الديني والتعصب المذهبي والتطرف العنصري في أوساط شعبية واسعة من الناخبين.
ومن هنا يصبح تفاؤل بعض العراقيين بالانتخابات المبكرة القادمة، واعتبارها خطوة على الطريق الصحيح، غيرَ مبرَّر وغير معقول.
ويمكن أن نعذر الجاهل الذي لم يتبحر في علم الديمقراطية وتاريخها وأصولها وثقافتها، والذي قد يكون الفقر والظلم والبطالة وفساد النُخب السياسية دافعه القوي وربما الوحيد إلى الظن بأن هذه الانتخابات هي طوق نجاته، وهي كافية لتخليصه من كل العذاب الذي رافقه سبع عشرة سنة، ولتخليصه من تجار السياسة، جملة وتفصيلا، شيعة وسنة، عربا وكردا، مسلمين ومسيحيين.
ولكن لا يمكن أن نعذر المتعلمين، ورجال القانون، وبعض شباب تشرين، ومعهم سفارة العم دونالد ترامب التي هنأت الشعب العراقي واعتبرت إعلان الكاظمي عن موعد تلك الانتخابات ترسيخا للديمقراطية في العراق.
وعليه، ووفقا لهذه الظروف والموانع، تصبح وعود الكاظمي وتصريحاته عن الدولة واللادولة هواءً في شبك إن لم يُشمر عن ساعديه، ويقرر، من الآن وحتى موعدِ انتخاباته المبكرة الموعودة في يونيو من العام القادم، أن يبدأ بقلع جميع الأشواك التي تحول بينه وبين إنجاز ما وعد.
فواقعيا وعملياً لا يستطيع أحد أن يقول إن العراق دخل عصر الديمقراطية الصحيحة إلا إذا وجدنا الفائز بأكثر الأصوات وأكثر المقاعد في البرلمان يشكل الحكومة دون أن يتمكن قضاء مدحت المحمود من اختراع بدعة جديدة تنسفه وتنسف العملية الانتخابية، كلها، من جذورها.
ترى هل سيسمح رؤساء الأحزاب والكتل المخضرمة وإيران، والكاظمي نفسه، لكردي – مثلا- أو تركماني أو صابئي أو مسيحي بأن يتولى منصب رئيس الوزراء، ثم يختار وزراءه بحرية، ووفق قناعاته وقناعات حزبه المنتصر، ثم ينتقلون، هم، طواعية وبهدوء وذوق رفيع، إلى معسكر المعارضة في البرلمان الجديد؟.
الجواب معروف. ولأنه معروف إلى حد البكاء، فإن إجراء الانتخابات القادمة دون تأمين الدخول لمرشحيها وناخبيها إلى مراكز الاقتراع والخروج منها وهم على قيد الحياة، سيجعل مؤكدا فوز أحزاب العملية السياسية ذاتها بأغلب الأصوات، وعند ذلك سيكون الكاظمي الذي أراد أن يكحلها قد أعماها.
وسوف يعطي الحكام المشكوك في عراقيتهم أعمارا فوق أعمارهم، وسيطعن الانتفاضة في ظهرها، وسيجعلها، بعد ذلك، عملا غير قانوني، وتمردا على سلطة شرعية منتخبة يستحق أبناؤها وبناتها السجن والخطف والاغتيال، ولكن، هذه المرة، بسلطة القانون.