عبد الرزاق محمد الدليمي


ان الكتابة عن مظاهر ألازمة العراقية شيء يمتاز بالتعقيد الشديد للقصور الموضوعي الذي تتسم به التصنيفات الفكرية لهذه الازمة ناهيك عن ندرتها مما يضفي على الباحث خاصية الحذر الشديد في التقرب اليها ، فضلا على أن الكتابة في الحقول المعرفية مثل (السوسيولوجيا) تتصف طبيعتها بخصائص التعقيد اصلا ، فالإقدام على دراسة لمعالجة مواضيع المنظومات كالمواطنة والهوية والاتصال، يتطلب توخي الدقة في تحديد الهدف الذي يمثل غاية الدراسة ،من دون ان تصاب قدرة البحث بخاصية الانسياق الطوعي للحدث واصابتها بالانشائية المملة مما يفقدهاقدرة الاتيان بدقة الاشارة وصوابها في تحديد علل الظواهر وتقييم نوع المعطيات وقد يسهل الانزلاق بعيدا عن الفائدة ، فالكتابة عن مسالك القضية العراقية لاتدور في فلك الاطمئنان بل في سوسيولوجيا القلق حول جدية الكتابة التي تنطلق من التساؤل حول درجة التلاؤم بين الجهاز المعرفي وبين الواقع المدروس.
ان الحلول الانية تحاصرنا بشدة باحثة عن مخرج للسلامة باقل الاضرار ، مع التأكيد على ان العراق امتلك ناصية وضوح الجغرافيا وتراتب الوعي في مسلمات بنائه الحضاري.
ان خوف اصحاب الشعارات الطوائفية في تنقيبهم عن اسوار آمنة يؤكد حقيقة انعدام الثقة بين اصحابها والمستفيدين من توظيفها ان التاريخ المعاصر يشهد اهتماما واسعا لمفهوم المواطنة لاسيما في عمليات البناء السياسي والدستور للدول السائرة في نهج الحداثة والديمقراطية ، غير ان العراق وتحديدا بعد احتلاله وتسلط طبقة من المنتفعين وشذاذ الافاق مسحوا تلك الدولة الحديثة ولم يعيروا كل مايتعلق بروح العصر أي من اهتماماتهم بل صبوا تركيزهم على نهب ثروات العراق وتفقير وتجهيل شعبه بأعتماد ممارسات طائفية ومناطقية بغيظه بديلا عن روح وجوهر المواطنة الحقيقية.
ان اشكالية الحرية والاستبداد في العراق المحتل اصبحت تشكل اهم الاعمدة الواهية للنظام السياسي الذي فرضه الاحتلال الامريكي البريطاني الايراني على الواقع العراقي بعيدا عما يجب ان يكون ديدن المواطن العراقي وهو المواطنة الحقيقية التي تتمحور في مشاركة كل المواطنين العراقيين الواعية والفاعلة دون استثناء ودون وصاية من أي نوع في بناء الإطار الاجتماعي والسياسي والثقافي للدولة وصناعة المستقبل المنشود .
ان المواطنة كمفهوم لايمكن ادراك تطبيقاته الا في مستوى دولة تحرص على الايمان بالحق والقانون وتكفل بذلك مبدأ العدالة والمساواة بين جميع مواطنيها .
ان الدولة الديمقراطية تفترض الغاء تمايز الهويات أيا كانت بين افرادها ، وتقتضي منع التفاوت والتفاضل على اسس من العرق او الدين واللون او الطائفة اذ تمكنها درجة الوعي تلك من اسس بناءات مغايرة لمكونات دولة الاستبداد ، التي لاتكفل توافر الحقوق المدنية والسياسية للمواطن ، فالدولة الديمقراطية الحقيقية تمنح المواطنة قوامها السليم.
ان الدولة الديمقراطية تجعل الوطن بيئة ممكنة لمواطنيها لا ان تجعل الوطن معسكراً كبيرا لحبس غلبيتهم ، فأن مبدأ المواطنة كفاعل محوري يصبح حاكما لمجمل التفاعلات التي تقف بثقة عالية على قاعدته وفي المقدمة منها ثقافة المواطنة في سيرورة تجلياتها المعرفية نحو التحول الشخصاني المستمر الى صيغة المواطنة بعد الاحتكام لثوابت الحقوق والواجبات .
منذ نيسان /2003 اشارت الوقائع أن الدعاة الذي صدعوا رؤوس العراقيين والعالم بأنهم فرسان الديمقراطية اثبتوا بأفعالهم قبل اقوالهم انهم أبعد ما يكونوا عن فهم واستيعاب الديمقراطية مثلما فشلوا في اشغال مساحة التحول الي ذهبوا به بعيدا عن اجندة التخطيط والبرمجة اللذين طرحوها منذ اول وهلة ، فأصبح المواطن يبحث عن فتات الدولة التي ضيعت مقاساتها وذاب الحلم الاول في دولة للرفاه والديمقراطية المزعومتين فطبيعة الصراع الذي فجرته سلطات الاحتلال وذيولها صبت مؤثراتها باتجاه تقويض مفهوم المواطنة والوطن والوطنية وجعلت المواطن العراقي يعيش حاليا انقساما حادا في مستوى التمايز في الهوية فقد برزت هويات فرعية صار بريقها اشد لمعانا مثل الهوية الطائفية والهوية العرقية التي هي نتاج سلسلة من الممارسات والاجراءات المتعاقبة المخطط لها سلفا، والتي ظهرت على السطح مما شكل الوجه العريض للازمة العراقية القائمة والتي مارست تهديدها لارادة العيش المشترك بين ابناء الشعب الواحد.
ان المؤسف حقا وجود بعض المؤسسات الاعلامية التي ظهرت في العراق عملت ولا تزال بطريقة متقنة لاستغلال آليات الصراع المخترع ونتائجه ومؤثراته دون ان تحتكم هذه المؤسسات الى مرجعية تهتم بروح المواطنة وتقدمها على سواها من المرجعيات التي تركز على كل ماهو منفر ومقسم للشعب العراقي،كذلك نرى العديد من وسائل الاعلام العراقية تبتعد عن ثقافة الوطن السياسي وتبرز بشكل مسئ صراع الهويات والطائفية البغيضة .
ان هذه المؤسسات الاعلامية تفقد بسلوكها ارتباطها بروح العصر وحاجات الوطن وارهاصات المواطن العراقي لان منطق الهوية الطائفية والعرقية يجعل من الحاضر مستنقع للبؤس، عوض ان تسهم هذه المؤسسات الاعلامية في رسم آفاق مشروع المستقبل الذي تبرز فيه الهوية الوعي الجماعي لمجتمع تجمعة العوامل الايجابية أكثر من السلبية التي جيئ بأغلبها أستعارة من مجتمعات اضلت قبلنا طريقها … أذن فدور وسائل الاعلام بوصفها احدى أخطر وأهم وسائط البناء الحضاري يتحدد في الوقوف عند نقطة الفهم والادراك المعرفي للازمة القائمة عبر تحليل انساقها وانتاج مفاتيح الحل.. مما يحمل هذه المؤسسات المسؤولية التاريخية في احداث المتغيرات السياسية والاجتماعية والتزامها بتعميق الوعي والثقافة الديمقراطية واشاعة المفاهيم والقيم والتقاليد الخلاقة في الدفاع عن قيم الديمقراطية التي تمنح الاعلام سلطته الطبيعية وتحافظ عليه من المسخ والتشويه ، وتمنحه الحصانة والوقاية من تطاول راس المال والمادي والسياسي على مقدراته وان الاعلام العراقي الاني رغم محاولاته الصعبة لشق طريقه المستقل والمميز الا انه مازال يعاني من محاولات تغيب مزاياه المهنية واستقلالية القرار ، فبعض من المنظومة الاعلامية واقع تحت تاثير المنظومة السياسية ودوائر التمويل بالشكل الذي يعكس أجندتها وتطلعاتها الفئوية والضيقة في هذا المجال او ذاك وتغليب الخصائص الفرعية على الوطنية العامة .
والامر المحزن فعلا ان بعض وسائل الاعلام بدلا ان تسهم بشكل فعال في التثقيف باهمية وحدة المجتمع العراقي وتقدم الوطنية على غيرها أصبحت معول للتهديم ، ان المكانة التي يشغلها الاعلام بين السلطة والمجتمع تمتلك حساسية عالية واهمية قصوى وان استغلال بعض منها يتسبب في اشعال الفتن في مجتمع لم يعد قادرا على تحمل تبعات استمرارها.
ونحن هنا لانريد أن نحمل المؤسسات الاعلامية كل المسؤولية عما حدث او سيحدث الا ان الحقيقة التي يجب الاشارة لها ان المؤسسات الاعلاميةالتي برزت بعد الاحتلال لم تشهد بناء منظومة سياسية تنموية ولم تتمتع بقدر كاف من الاستثمارات لرفع كفاءة الاجهزة القائمة بها او تطوير المواد الاعلامية التي تنتجها ، ولم يستند الاعلام الى خطط واستراتيجيات طويلة الامد ، وهذا ماجعل قسم لايستهان به منها يفتقد الاساس العلمي من المعلومات والوثائق والابحاث النظرية والميدانية والتي تعد ضرورة رئيسة لتجنب العشوائية في مجال الاعلام ، الذي تشير الحقائق الى انه اعلام رأسي يهبط من اعلى الى اسفل وذلك بحكم طبيعته المركزية وتوجهه الدعائي وليس الاعلامي