د.باهرة الشيخلي


يتساءل كثيرون عن سر التناسل الغريب في عدد الميليشيات الولائية بالعراق، من دون أن يدركوا أن وراء ذلك استثمارا يأكل من جرف الثروة الوطنية العراقية، فنتيجة لعطايا الدولة لهذه الميليشيات التابعة لأحزاب وحركات توالي إيران تتبارى تلك الأحزاب والحركات في تشكيل ميليشيات بمختلف التسميات. وإذا كان لدى حزب أو حركة 100 عنصر ميليشيوي يزعم أن عدد ما لديه يتجاوز الألف أو الألفين ليتسلم عنهم العطايا، في عملية لصوصية واضحة، وفضلا عن هذا الاستثمار فإن هذه الميليشيات تحارب الاستثمار في العراق لصالح إيران وتمنع حركة التنمية فيه بابتزازها للشركات المستثمرة، متمتعة بحصانة أضفتها المرجعية الشيعية عليها، بوصفها “جيشا مقدسا”.
ويؤدّي ابتزاز الميليشيات المسلّحة للمستثمرين في البلاد، وتهديدهم بدفع إتاوات كبيرة أو انتهاك أمنهم الشخصي وشركاتهم، إلى تعطيل عدد كبير من المشاريع الاستثمارية في بغداد والمحافظات الأخرى، وسط مطالب بتدخّل الحكومة لوضع حدٍّ لانتهاكات الميليشيات وتوفير حماية للشركات الاستثمارية والمساهمة في تنمية البنى التحتية للبلاد وتطويرها.
يؤكد هذا ما قاله أحد مديري الشركات المتخصّصة في قطاع الإنترنت، “لا يمكن العمل في أي مشروع بالعراق، خصوصا في العاصمة بغداد، إلا بموافقة الأحزاب والجهات المسلّحة التابعة لها، ما يجعل العمل في غاية الصعوبة”.
ويروي هذا المدير أن “تلك الميليشيات أوقفت العمل في مشروع الكابل الضوئي أكثر من مرة، لكن، بعد وليمة دسمة ومبالغ مالية كبيرة قُدّمت إلى قياديين في فصائل مسلّحة، استطعنا متابعة العمل في المشروع”، مؤكدا تخصيص شركته رواتب شهرية لعدد من المسلّحين التابعين لتلك الجهات بغية توفير الحماية الكافية والعمل بحرية تامة في مناطق نفوذها، ما جعل “مدينة بغداد عبارة عن أقاليم تسيطر عليها الميليشيات التابعة للحشد الشعبي، فكل فصيل يرفع علمه في مقاطعته الخاصة”.
تأخذ الجماعات المسلحة ثلاثة أدوار في الحراك الاقتصادي: الابتزاز من خلال مساومة المستثمرين، والاحتكار من خلال الدولة في السيطرة على منافذ الاستثمار، والتحكم في خلافات المستثمرين لأن النظام القضائي لا يتصدى للإشكالات ويحلها، وتعد هذه الأدوار طاردة للاستثمارات والتنمية الاقتصادية في البلاد، كما يؤكد المستثمر العراقي رمضان البدران.
ولمنع الدول الأخرى من تحويل العراق إلى ساحة معارك بالوكالة، تحتاج بغداد إلى كبح الميليشيات الخارجة عن القانون، ويعدّ هذا الأمر مهمة صعبة وطويلة، لأن طهران أمضت خمس عشرة سنة في بنائها لتصبح قوة موازية خاصة بها، وبالنظر إلى الاستعداد، الذي أبدته هذه “المجموعات الخاصة” عندما يُطلب منها مهاجمة القوات الأميركية أو القتال لصالح نظام الأسد في سوريا أو تأمين المصالح الإيرانية الأخرى في العراق، فإنها تخاطر بتوريط العراق في مواجهات طهران الإقليمية مع الولايات المتحدة والسعودية أو الكيان الصهيوني.
من بديهيات غابة أحزاب الدين السياسي أن العنف قرين الولادة والتأسيس ولا يوجد تنظيم منها إلا ويكون له جناح مسلح.. هكذا كانت البداية.. ونستذكر العمليات الإرهابية، التي خرجت من تحت عباءة الثورة الإيرانية، منذ سنة 1979 وبقيت تمارس نشاطاتها المسلحة متسللة من إيران إلى العراق طوال العشرين السنة، التي أعقبت حرب الثماني سنوات، التي فرضتها إيران على العراق، وعادت بعد عام الفيل (2003)، لتجدد نشاطها وتضاعفه وفقا لخارطة الأهداف، التي صممتها طهران سلفا.
وكان تناسل الخلايا الإرهابية يجري طرديا مع تدفق أموال ولاية الفقيه ثمّ تحولت الخلايا إلى فصائل وآلت هذه الأخيرة إلى ميليشيات لتنضمّ إلى غابة “الحشد الدموي المقدس”.
وكانت لكل مرحلة من مراحل تدمير الدولة واجبات مُناطة بهذه الأجنحة المسلحة من مرحلة التزوير والفساد مرورا بدولة اللاقانون وصولا إلى المرحلة الدموية الكبرى؛ اغتيال 700 عراقي من شباب الرافدين وقنصهم بدم بارد.
القتل والتعذيب والتغييب القسري والتهديد والابتزاز أبجدية الميليشيات ودستور عملها الدائم.. وبعد أن اجتازت مرحلة الإجهاز على الدولة، بقي من أجندتها الخطوة الكبرى، وهي إلحاق وادي الرافدين بالهضبة الإيرانية.
إن الذي لا يستجيب للمطالب الابتزازية للميليشيات يكون مصيره مماثلا لشركة أجنبية يؤكد مديرها التنفيذي المهندس حسين السامرائي أنها وقّعت عقد صيانة لمجاري مدينة الحسينية شمالي العاصمة العراقية بغداد، وباشرت بإنشاء موقع خاص للمهندسين العاملين في المدينة، واشترت أنابيب بأحجام كبيرة، فضلا عن الآليات الحديثة الموجودة في الموقع، لكن الشركة لم تستطع العمل بسبب ابتزاز الميليشيات وتهديدها للطواقم العاملة بالقتل ما لم تدفع الشركة مبالغ مالية كبيرة، وعندما رفضت الشركة الانصياع لمطالب الميليشيات كانت النتيجة سرقة المواد والآليات، وحرق مواقعها في المدينة، ما دفعها إلى اتّخاذ قرار نهائي بالانسحاب من المشروع وغلق مقرّها في العراق.
يتضح من هذا كله أن تأثير السلاح الميليشيوي الدقيق المصوب ضد الشعب كله دفاعا عن ولاة الأمر والنعم من الولاية الإيرانية إلى أحزابها، التي لم تبق كبيرة إلا وارتكبتها بحق العراق، لا ينحصر عند حدود الوضع الأمني والسياسي، بل يعدّ أحد أبرز معرقلات التنمية الاقتصادية والاستثمار، إذ يأخذ مصطلح “البيئة الاستثمارية غير الآمنة” حيزا كبيرا عند الحديث عن احتمالية استقطاب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز التنمية في البلاد، كما أن للأحزاب والميليشيات دورا كبيرا في جعل العراق بيئة طاردة للشركات والمستثمرين، من خلال عمليات الخطف والقتل لأصحاب الشركات وكبار المستثمرين، مقابل تقصير واضح في توفير القوات الحكومية الحماية اللازمة للشركات وموظفيها، كما يؤكد خبراء اقتصاديون.
إن النفوذ المالي والاقتصادي للأذرع المسلحة الموالية لطهران، يتجاوز حدود “هيئة الحشد الشعبي” ويدخل في مصالح اقتصادية واستراتيجية عدة في الدولة العراقية، الأمر الذي يضع حكومة الكاظمي أمام تحدٍّ آخر يتعلق بإمكانية تفكيك مصالح تلك الجماعات المالية، لحساب الدولة.
وتستفيد إيران من حجم هائل من التبادل التجاري مع العراق، والذي يقدر بمليارات الدولارات سنويا، فضلا عن عقود الطاقة، التي باتت تعد أبرز منافذها المالية في ظل الحصار الاقتصادي، الذي تعيشه، ما يدفع بسياسيين ومراقبين إلى القول إن طهران لن تسمح بأي تنمية اقتصادية في البلاد تحرمها من هذا النشاط الكبير، وستدفع الجماعات المسلّحة الموالية لها لصناعة مصدّات كبيرة أمام أيّ تحرّك عراقي في هذا السياق، فحاجة إيران الماسة للعملة الصعبة لن تتيح لأيّ مستثمر منافسة وارداتها للعراق، بل حتى القطاع العام، الذي يفترض أن يحظى بحماية الدولة غير منتج، لعدم وجود إرادة حقيقية لتفعيله، لكونه سيحرم إيران وجهات أخرى من الدخول إلى السوق العراقية.
إن ضبط فوضى السلاح مدخل مناسب وطريق مختصر لاستعادة الدولة لهيبتها المفقودة، لكن وقائع عدّة أثبتت أن المشكلة أعمق من مجرّد وجود السلاح بأيدي المدنيين والميليشيات، وتتمثّل في تغلغل تلك الميليشيات ذاتها في نسيج الدولة بحيث يتكوّن لها جناحان متكاملان: سياسي وعسكري يتبادلان التخادم في الاتجاهين بأن يمنع الشق الأول اتخاذ قرارات وسنّ تشريعات تصبّ في اتجاه حصر السلاح بيد الدولة، بينما يحمي السلاحُ ذاتُه السياسيين المدافعين عنه ويحفظ مصالحهم ويمنع خضوعهم للمساءلة وتطبيق القوانين عليهم، بل يساعدهم في فرض رؤاهم وتعليماتهم في ما تتخذه الدولة من قرارات وما تضعه من سياسات.
لا يمثّل المجال الأمني الميدان الوحيد الذي يمكن لرئيس الوزراء العراقي الحالي أن يمارس من خلاله الضغط التدريجي على الميليشيات، بل إنّ المجال الاقتصادي والمالي يبدو ساحة مهيّأة لخوض المعركة ضدّ تلك الفصائل والأحزاب المرتبطة بها والانتصار فيها، فبقدر ما تشتدّ الرقابة على موارد الدولة وتحدّ من هدرها، يضيق الخناق على الميليشيات المستفيدة من الفساد وتقلّ مصادر تمويلها، وتضعف، تاليا، سطوتها وتغوّلها، وهذا أمر عسير أمام حكومة الكاظمي ولا يستطيع تحقيقه إلا أبناء البلد، عبر حراكهم الذي بدأ في الخريف الماضي.