سعيد الكاكائي


في عالمنا المعاصر هناك العديد من الدول التي تتبنى مبادئ الديمقراطية لنظام حكمها، والعراق واحد من هذه الدول حسب ماجاء في دستوره الدائم، وخاصة المادتين (1) و(2/ب). ومن المبادئ الديمقراطية الاساسية التي تضمن الحقوق والحريات والواجبات للمواطنين هي سيادة القانون والتأكيد على ان “الشعب هو مصدر السلطات وشرعيتها، يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية” كما هو منصوص عليه في المادة (5) من الدستور. ورغم عدم ذكر الدستور العراقي لتفاصيل ممارسة الاقتراع السري العام المباشر، عدا ما وردت في المادة (49) من عموميات تخص الناخبين والمرشحين لتكوين مجلس النواب، نجد ان الفصل الرابع من الدستور والخاص بالهيئات المستقلة ذكرا مقتضبا في المادة (102) للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات بأعتبارها هيئة مستقلة خاضعة لرقابة مجلس النواب وتنظم أعمالها بقانون. لكن، مع تطور الوعي الانتخابي لدى الشرائح المختلفة للشعب العراقي، وخاصة الجيل الصاعد والمنتفض ضد شكل ونوع الحكم الذي أخفق في خدمة الشعب وانحاز لصالح الاحزاب المتسلطة على رقاب المواطنين منذ عام 2003، وجدنا كيف تمكن الشبان المنتفضين من فرض متطلباتهم على مجلس النواب في تغيير قانونين أساسيين وهما قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وقانون انتخابات مجلس النواب. ففي القانون الاول تم تغيير الهيكلية القيادية والادارية للمفوضية، أما القانون الثاني فمازال مجلس النواب يماطل في تشريعه بما يضمن مصلحة الاحزاب السياسية المتنفذة في العراق، في ضوء تصويته على مطلبين مهمين للمتظاهرين، ألا وهما العمل بنظام الدوائر الانتخابية الفردية ونظام الاغلبية أوكما أسماه قانون انتخابات مجلس النواب بنظام الترشيح فردياً.

ولكي نسلط الضوء على هذين النظامين، وجب ذكر ثلاثة فقرات مهمة من نص المادة (15) من قانون انتخابات مجلس النواب المصوت عليه والغير مصادق من قبل رئيس الجمهورية، وهي كالآتي:

((أولا: تقسم الدوائر الانتخابية المتعددة في المحافظة الواحدة.

ثانياً: يكون الترشيح فردياً ضمن الدائرة الواحدة.

سادساً: تتكون الدوائر الانتخابية وفقاً للجدول الذي سيقره مجلس النواب لاحقاً ويتم التصويت عليه.

دوائر انتخابية

رغم ان مصطلح “الدوائر الانتخابية المتعددة” لاوجود له في المعجم العربي لمصطلحات الانتخابات الصادر من البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام 2014، إلاّ أنه يؤكد على تقسيم الدوائر الانتخابية الى أكثر من ثلاثة دوائر انتخابية كحد ادنى لمفهوم كلمة “التعددية”. وإذا ما أخذنا بما جاء في المادة (13/أولاً) من نفس القانون، نجد إنها تنص على ان: ((يتكون مجلس النواب من (329) ثلاثمائة وتسعة وعشرين مقعدًا يتم توزيع (320) ثلاثمائة وعشرين مقعداً على المحافظات وفقاً لحدودها الإدارية لحين اجراء التعداد العام للسكان ويتم توزيع (9) تسعة مقاعد حصة كوتا للمكونات وفقا للبند (ثانيا) من هذه المادة)). أي إن لكل محافظة لها حدودها الادارية والتي تتكون من حدود المحافظة بالاضافة الى حدود وحداتها الادارية كالاحياء والنواحي والاقضية. عليه، يمكن الجزم بأن المشرّع قد صوت على المادة (15/أولاً وثانياً) على اساس تقسيم محافظات العراق الى 329 دائرة انتخابية متعددة أوبالاحرى فردية ولكل محافظة دوائرها الانتخابية الفردية حسب تعداد نفوسها لسنة 2010. الى ذلك، بما إن الفقرة (ثانياً) من المادة (15) تنص على ان ((يكون الترشيح فردياً ضمن الدائرة الواحدة))، فما الجدوى من بدعة الدوائر الوسطية، غير الانصياع لارادة الاحزاب والكتل السياسية المتنفذة في مجلس النواب! والأهم مما تقدم، تنص الفقرة (سادساً) من المادة (15) كما ذكرنا أعلاه، على وجوب انجاز جدول لتوزيع الدوائر الانتخابية الذي سيقرهٌ مجلس النواب من خلال التصويت عليه لاحقاً. وهذا إقرار واضح وصريح بأن على مجلس النواب إقرار الجدول من خلال التصويت عليه فقط، وليس القيام برسم وتحديد الحدود الانتخابية للدوائر الفردية ومن ثم توزيعها حسب بدعة “الدوائر الوسطية” في المحافظة الواحدة. أما إذا ما تدخل مجلس النواب في وضع جدول للدوائر الانتخابية الفردية من خلال التقسيم حسب فكرة “الدوائر الوسطية”، حينه يكون قد خرق الدستور في مادتيه (47) و(50/سادساً) والتي تؤكدان على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث ومبدأ عدم جواز الجمع بين عضوية مجلس النواب وأي عمل أومنصبٍ رسمي آخر، حيث إن مهمة رسم الحدود الانتخابية وتوزيع الدوائر الانتخابية المتعددة وإدامتها هي من واجبات هيئة مستقلة ومهنية خاصة برسم وتحديد الحدود الانتخابية لم يستحدثها المجلس الى يومنا هذا.

هيئة مستقلة

في العديد من الدول الديمقراطية (أكثر من 91 دولة وخاصة الولايات المتحدة الامريكية وكندا واستراليا والمانيا ونيوزيلندا والهند وبريطانيا والخ…)، هنالك هيئة مستقلة لرسم وتحديد الحدود للدوائر الانتخابية الفردية وغالباً ما يديرها مجلس مكون من ثلاثة الى خمسة مفوضين مستقلين غير خاضعين لا للسلطات الثلاث ولا الى سلطة مجلس المفوضين لمفوضية الانتخابات، ماعدا الخضوع لرقابة مجلس النواب والتنسيق التام مع مفوضية الانتخابات ووزارة التخطيط فقط. وأغلب هذه الهيئات المستقلة لرسم وتحديد الدوائر الانتخابية تضع في صلب واجباتها الاساسية مايلي:

1- الاستقلالية في رسم وتحديد وتوزيع الحدود الانتخابية بعيداً عن النفوذ السياسي والديني والاجتماعي؛

2- المساواة بين الوحدات الانتخابية لضمان المساواة بين الناخبين وحفظ قوة أصواتهم؛

3- التمثيل العادل للوحدات الانتخابية على اساس الوحدات السكنية المتجانسة، آخذاً في نظر الاعتبار الحدود الادارية والميزات الجغرافية والمصلحة العامة لسكان الدائرة الانتخابية الواحدة؛

4- عدم التمييز العنصري والعرقي والقومي واللغوي والديني والمذهبي ومالها من شبيهات أخرى عند رسم وتحديد حدود الدوائر الانتخابية الفردية؛

5- الشفافية في رسم وتحديد وتوزيع الحدود للوحدات الانتخابية وذلك لضمان سهولة معرفة الدائرة الانتخابية التي ينتمي لها الناخب والمرشح؛

6- المهنية في العمل ومتابعة التطورات السكانية والادارية في الدوائر الانتخابية وعدم الانصياع للرغبات السياسية وغير الدستورية وغير القانونية للاطراف المشاركة في العمليات الانتخابية؛

7- التعاون الوثيق مع الهيئات المستقلة المحلية والدولية ذات الاختصاص في رسم وتحديد وتوزيع حدود الدوائر الانتخابية الفردية.

عليه، بدلاً من الذهاب الى الخرق الدستوري في موضوعة تقسيم الدوائر الانتخابية تحت مسمىالدوائر الوسطية، على مجلس النواب تشريع قانون يؤسس من خلاله الهيئة المستقلة لرسم حدود الدوائر الانتخابية باسرع وقت ممكن حسب منطوق المادة (108) من الدستور. ذلك لأن المادة (15) من قانون انتخابات مجلس النواب تحتاج الى ضرورة وجود قانون خاص ينظم أعمال ومهام هيئة رسم حدود الدوائر الانتخابية بعيداً عن الرغبات والاملاءات الحزبية الغير حضارية والتي سوف تديم من سطوة الاطراف السياسية المتنفذة وتوسّع من الشرخ الحاصل بين الشعب والسلطات الثلاثة.