بهاء العوام


لا نذيع سراً بالقول إن الائتلاف السوري غرق في تنفيذ الأجندة التركية في أزمة بلاده، سواء كان ذلك تأمراً من بعض أصحاب النفوذ فيه أو رغما عن المستضعفين في هذا الكيان المشوه.

مهمة فاشلة

إعلان الائتلاف السوري نيّته تأسيس هيئة عليا للانتخابات كان بمثابة استطلاع للرأي حول أدائه كممثل للمعارضة منذ سنوات. والنتيجة كانت أن هذه “المؤسسة” لم تعد تمثل إلا ذلك التيار الذي انقلب على النظام طمعا في السلطة وليس أي شيء آخر. هؤلاء الذين لا يختلفون عن “أسود” دمشق إلا بأنهم يرون أنفسهم أحق بالحكم لأسباب مختلفة، ولكن لا توجد بينها مبررات وطنية أو سورية إن جاز التعبير.

ولم تنقذ الهيئة تلك المسوغات التي ساقتها في الاستعداد لمرحلة تحتاج البلاد فيها إلى هيئة تقود الاستحقاقات الانتخابية بعد تطبيق القرارات الدولية في التغيير السياسي المنشود، وذلك لأن المعارضة والمعارضين يعرفون أن التغيير لن يحدث في سوريا إلا بعد رحيل بشار الأسد عن السلطة، وأن المشكلة لا تكمن في الجسد الذي يشرف على عمليات الاقتراع، وإنما في مناخ الحرية الذي تحتاجه هذه العمليات.

فقط من يريد مشاركة الأسد في السلطة هو من يستعجل تشكيل هيئة الانتخابات. من يبحث عن إرضاء حكومات تنفق عليه وأنظمة تدعمه لمصالحها السياسية، هو من لم يعد يرى حلاً للأزمة إلا بتقاسم الحكم مع “الأسود”. من أدرك أن معارضته فقدت رصيدها الشعبي، وبات تمثيله مزيّفاً لمن قرروا القطيعة مع البلاد حتى يسقط النظام، هو فقط من يبحث عن مخارج لمأزق فشله في تحريك الأزمة قيد أنملة.

صحيح أن كثيرين جداً فقدوا الأمل بأن يوماً قريباً ما سيقتنع العالم فيه أن بقاء الأسد هو أس الفوضى والقلق في سوريا والمنطقة ككل. وصحيح أيضاً أن كل الدول التي ادعت صداقة الشعب السوري، إما انقلبت عليه أو أهملت أزمته لنحو عشر سنوات مضت حتى الآن. ولكن ذلك لا يعني بأي حال، أن النهاية سيكتبها حلفاء دمشق وكأن شيئا لم يكن، وأن سلالة الأسد ستواصل توارث السلطة في البلاد إلى الأبد.

نعم، يجب أن تمارس مؤسسات المعارضة الواقعية السياسية في التعاطي مع الأزمة، ولكن ذلك يكون بتدوير الزوايا وتقديم ملفات على أخرى، وليس بالتنازل عن الجوهري والبديهي في الأزمة، وهو بالحد الأدنى أن الجمهورية السورية الجديدة لن تقبل ببقاء عائلة الأسد على رأس السلطة مهما كانت الكلفة وطال الانتظار.

هو ليس أمراً يستحيل قبوله من قبل الدول المعنية بالأزمة السورية، بمن فيها حلفاء الأسد. ولئن كانت الطروحات البديلة من قبيل تحويل الدولة إلى إمارة إسلامية، أو تقسيمها إلى كيانات كردية وسنية ومسيحية.. إلخ، أو تعميم حالة انتقامية مستمرة من طائفة أو فئة قد تغرق البلاد في دموية لا تنتهي، فإن النتيجة ستكون تمسك الجميع بنظام دمشق بوصفه حاميا للأقليات وحريصا على “علمانية” الدولة ووحدة أراضيها.

ولا نذيع سراً بالقول إن الائتلاف السوري غرق في تنفيذ الأجندة التركية في أزمة بلاده. وسواء كان ذلك تأمراً من بعض أصحاب النفوذ فيه، أو رغما عن المستضعفين في هذا الكيان المشوه، فإن الائتلاف لم يعد ممثلا للمعارضة بصيغتها الصرفة التي ولدت مع الثورة الشعبية عام 2011. وهي الصيغة التي كان ولا يزال يراهن عليها السوريون لإحداث التغيير في البلاد، وليس لاستبدال الأسد بنصر الحريري.

قد يقول قائل إن الأسماء في هذه المرحلة لا تهمّ والتغيير فقط هو المطلوب. ولكن هذا التفاف على الهدف المتمثل في الوصول إلى دولة يمكن أن يختار فيها السوريون رئيسهم وحكومتهم وبرلمانهم استنادا على معايير ديمقراطية وبرامج انتخابية، ومن يأخذ على عاتقه أن يوصل البلاد إلى هذه المرحلة، يجب ألا يترشح لأي منصب حكومي إلا بعد حين، وضمن شروط تضمن تكافؤ الفرص وعدالتها بينه وبين غيره.

ثمة تقارير صحافية وتسريبات فيسبوكية تتحدث عن محاولة رئيس الائتلاف نصر الحريري، الاتفاق مع الروس على ترشحه مقابل بشار الأسد في الانتخابات الرئاسية القادمة. لا يبدو الأمر مستحيلا في سياق حالة العجز التي يعيشها هذا الجسد “المعارض” الهزيل، وكل هذه الإعلانات المتدفقة لأنشطة الحريري في مناطق سيطرة جبهة النصرة وأخواتها في محافظة إدلب وغيرها من مناطق شمال غرب سوريا.

لقد فشل الحريري في إحداث أي تقدم في مسار حلحلة الأزمة تحت مظلة الأمم المتحدة. كما أخفق، هو وجماعته، في خلق صيغة بديلة للعيش في مناطق سيطرة “المعارضة” تقنع الغرب والشرق بإمكانية الرهان على الائتلاف كممثل حقيقي للشعب السوري. نصف الفشل يتحمّله الظرف الدولي المرافق للأزمة منذ سنوات، والآخر يتحمله الحريري وصقور الائتلاف الذين همّشوا أصوات وطنية حقيقية في المعارضة.

اليوم بدل أن يخرج الحريري إلى السوريين معلنا استقالته بسبب عجزه عن إتمام المهمة التي أوكلت إليه، ويكشف تلك الأسرار التركية والغربية والعربية التي تقف وراء استعصاء الأزمة على الحل حتى الآن، يمضي باتجاه إحداث هيئة للانتخابات استعدادا لمرحلة مقبلة لن يراها السوريون طالما بقي هو وأمثاله، يعتقدون أن التغيير المنشود لا يحتاج إلا إلى إرفاق عبارة “الأسد المجرم” مع كل بيان صحافي للائتلاف.

على مدار عقد من الزمن، مر على الائتلاف السوري العديد من السياسيين الذين تنحوا عندما اكتشفوا صعوبة تغيير المواقف الغربية والعربية من الأزمة في مرحلة من المراحل، وأدركوا أن صقور جماعة الإخوان وشبيهاتها، هم من يديرون الدفة فعليا في ذلك التكتل الذي تتحكم فيه تركيا، تماما كما تتحكم روسيا وإيران في نظام دمشق. مع فارق أن حلفاء الأسد أكثر وفاء من أنقرة التي حوّلت المعارضين إلى مرتزقة.

صحيح أن المنسحبين من الائتلاف خلال السنوات الماضية، عجزوا عن تغييره وتغيير دفة التعامل الدولي مع الأزمة السورية، لذلك آثروا التخلي عن التمثيل الرسمي للمعارضة. ولكن ذلك لا يدينهم بقدر ما يدين هؤلاء الذين أرادوا أن تبقى معارضتهم في حدود الإقامة في الفنادق الفاخرة والظهور على شاشات الإعلام، حتى تحين ساعة التسويات والمصالحات مع النظام، فيقطفوا من خلالها وزارة هنا أو منصباً هناك.

لقد حان وقت تجاوز السوريين للائتلاف ممثلا لمعارضتهم وثورتهم، تماماً كما تجاوزوا النظام ممثلا لهم ولدولتهم. لن يفيد تراجع الحريري وزمرته عن خططهم الفجة والفاشلة في تقاسم السلطة معالأسود”. ما يجهله هؤلاء أن السوريين ملوا من التسويف الدولي لأزمتهم، وضاقوا ذرعا بكل هذا التهميش لقضيتهم من الغرب والعرب، ولكنهم لم ولن يقبلوا بحلول ممسوخة تلغي حقهم في تغيير النظام. لا يعاني السوريون نقصاً في العقول القادرة على مواصلة الطريق نحو هدفهم في استرداد دولتهم من الطغاة، والسنون زادتهم إصرارا، كما زادتهم واقعية وقبولاً لتدوير الزوايا من أجل تحقيق ذلك. هم لا يرفضون تقديم التنازلات ولكن جميع الطرق يجب أن تؤدي إلى انتهاء حقبةالأسود”.