فائزة محمد علي فدعم


وجهت لنا دعوة من السيد اكرم البزاز النعيمي وكانت المناسبة هي الختان . كان يسكن في دار الدكتور صبحي محمد نوري التي اشتراها منه بعد انتقاله إلى بغداد وهو الان موقع مطعم (كوكو جكن) كانت رائعة جداً وتحتوي على حديقتان احداهما امامية والاخرى خلفية .


كنت آنذاك في عز الشباب فقد كان عمري حوالي 19 عاما . دخلنا البيت مع نخبة من عوائل بعقوبة وكان الاحتفال لشدة جماله كأنه من الخيال وليس الواقع وبدأت المنقبة النبوية وبعدها أعدت المائدة وكان عليها مالذ وطاب من جميع اصناف الطعام . مرتبة بشكل مُبهر وانيق وقد استمر الاحتفال حتى فجر اليوم التالي . كنت اجلس بجوار امرأة لطيفة افسحت لي المجال بجانبها . تعارفنا فحدثتني باللهجة المصرية قائلة : انا زوجة الدكتور اسكندر رومان وعندما سالتها عن اسمها قالت : فائزة . ابتسمت وقلت لها : انا أيضاً اسمي فائزة .


دخلت تلك المرأة في قلبي فوراً . كان الدكتور وصاحب الدعوة بينهما اعمال تجارية مشتركة . تجاذبنا اطراف الحديث ودعوتها الى منزلنا وقلت لها ان الدار التي تسكنيها هي ملك لابن عم والدي محمد الحجية (ابو قيس) فاطمأنت اكثر .


كنا نسكن في بيتنا الواقع على نهر خريسان قبل تعديل مساره والان موقعه مقابل مطعم العافية وفي اليوم التالي جاءت بصحبة زوجها ونزلت من السيارة ( الفوكس واغن ) وذهب الدكتور الى عيادته . تطورت العلاقة بيننا من خلال الزيارات الشُبه يومية وكانت اكثر جلساتنا في ( الشرفة ) المطلة على الحديقة وهي سعيدة بعلاقاتنا مع جيراننا كأننا عائلة واحدة . عندما كان ينقطع الماء من نهر خريسان يأتي الناس لأخذ الماء من البئر الموجودة في حديقة منزلنا التي كانت مساحتها الف متر . لأن الوالد اشترى لنا مضخة لسحبه في مثل هذه الظروف اضافة الى سقي الاشجار . كان يفصلها عن ( البقجة . وهي بستان صغير ) سور حديدي جميل وبجوارها حظيرة الابقار ...


اعجبت السيدة بشكل البيت وتصميمه وكانت هي من الديانة المسيحية ( من الاقباط ) خريجة (الليسيه فرنسي) واصبحت كأنها احد افراد البيت وبتنا نتعاون في كل شيء وما احلاها من اخوة . كنا نشرب القهوة يوميا . وكان الوالد يجلبها خصيصاً لها من بغداد لأنها مدمنة عليها وقد اصبحت مثلها .


صار بيتنا دارها الثاني ونحن عائلتها وكنا معها على الحلوة والمُرَّة . عند تعديل نهر خريسان استملكت الحكومة المثلث الواقع وسط بعقوبة فانتقلنا الى بيت اخر يفصلنا عنهم فرع ( دربونة ) وشارع واحد وهو دار السيد عباس رفعت الجيال وازدادت اواصر الصداقة عندما جاء اخوتها الثلاثة للعمل في بغداد وقد كانوا مهندسين وهم السيد فوزي ورمزي وظريف وبعد عدة اعوام تقدم لخطبتي شاب . وافق الوالد على العائلة لعراقتها وعندما تمت اجراءات الخطبة وحان موعد عقد القران جلست هي عند الشباك خلف الستارة واستحلفتها بالله ان ترى العريس وتخبرني هل هو مقبول الشكل ام لا ؟ وعندما شاهدته ضحكت وقالت : انه جميل الهيئة . سالتها كيف عرفت وانت لم تريه سابقا ؟


فقالت : من شدة خجله وتربيته علمت انه العريس .


وبعد عقد القران اشترطت على اهلي ان اسكن قرب بيتها تماما وصادف ان ذهبت في زيارة الى مصر لرؤية اهلها فاشترت لي جهاز العرس من هناك وكان من ارقى المناشيء في ذلك الوقت وهو من صنع المحلات الراقية امثال (شيكو ريل . عدس . بنزانيون . واكثرها ماركة جييل التي كانت مشهورة جدا حينها ) اما العطور فهي من ماركة ( الشبراويشي ) والمفروشات عمل يدوي فهي كانت تجيد الحياكة والتطريز وتسمي الشغل ( الكانفاه ) ونحن نسمية (القنويجة او الاتمين) واستمرت صداقتنا ولان الله لم يرزقها الذرية ساعدتني في تربية ستة من اطفالي وكل مولود ارزق به كانت تجلب له هدية قرآن مع سلسلة والبنات تضاف اليها تراجي (حلق) وحتى الان هداياها موجودة ...عند ذهاب زوجي الى العمل كنت اصطحب اطفالي الى حديقتهم التي تقع خلف الدار وتحوي على قفص كبير جدا مليء بالطيور والارانب والحمام والاوز وكان لديهم ولد اسمه فاضل يتيم الاب قام بتربيته الدكتور وفيه طيف من التوحد يقوم بمساعدتهم في المنزل وفي يوم من الايام وانا جالسة عندهم زارهم ضيف من صحراء مصر وكان في بعثه تبشيرية وكانت الكنيسة التي يتعبد بها اسمها ( مارمينا العجايبي ) ورحبنا به انا والست فائزة وبعد التعارف تحدثت عن النبي عيسى عليه السلام ومرقعة اورشليم فقلت للراهب المتفهم جدا ان الاسلام والاقباط تربطهم صلة الرحم لان المقوقس حاكم مصر قد اهدى رسولنا الكريم ماريا القبطية التي اتخذها النبي محمد صلى الله عليه وسلم زوجة له وهي ام ابراهيم عليه السلام فوقف اجلالا واحتراما وقال : اول امرأه تصادفني منذ قدومي الى العراق وهي بهذا المستوى الثقافي . انت يا اختي ملمة بالكثير من الاشياء .


بقيت علاقتي بالست فائزة سنوات طويلة حتى عام 1986 وكنا نذهب سوياً للتجول أو التبضع وقد عشقت بعقوبة وبساتينها وشوارعها واحيائها وناسها ونهريها . ولكن دوام الحال من المحال وفي احد الايام جاء الخبر المحزن ان الدكتور اسكندر قد توفي في عيادته وحزنت جدا واصرت على نقله الى مسقط راسه في مصر بعد اجراءات معقدة وخلعت خاتم الزواج من يده ولبسته مع خاتمها ولم تبرح بعقوبة ابدا وبعدها عملت في شركة طيران وبعد سنين عديدة كبرت في السن واصبحت الوحدة صعبة عليها هي وفاضل الولد الذي ربته مع زوجها والذي اصبح بعد كبره صعب المزاج وفي عصر احد الايام جاءت كعادتها الى منزلنا ومعها الحلويات التي تجيد صنعها للأطفال وهمست في اذني وقالت : يا اختي الوحدة اتعبتني وكبرت في السن واريد الرحيل الى بلدي . نزل الخبر عليَّ كالصاعقة فقالت : هذا قرار لا رجعة فيه وقامت ببيع اثاث البيت بمساعدتنا نحن والجيران ومنحتني كل شيء غالي وثمين هدية لي وهي موجودة عندي الى الان وحتى خط الهاتف سجلته باسمي وارسلت الى اهل فاضل رسالة ليستلموا ابنهم الذي اصبح كبيرا في السن ولم يتعود على فراقهم وجاءت والدته لاصطحابه وكان منظره مؤلمٌ جدا . كنا جميعنا نبكي انا والست فائزة وهو وامه التي اقتادته معها وهو يرفض الخروج من الدار التي عاش فيها خمسون عاما .


رحلت بعد توديعنا واعطتني عنوانها في مصر وهو ( 67 شارع كلوب بك . القاهرة ) وبقينا على تواصل حتى وفاتها ... كانت جيرة سعيدة وصلة وثيقة وذكريات جميلة لازال الم فراقها الاول برحيلها والثاني بموتها يؤذيني ولا انساك ابدا يا وطني الثاني ...