سعد القرش


يستقوي الاستبداد العسكري بالسلاح، ويتسلح الاستبداد الديني بالأفكار. ويتصارع الطرفان بسلاح العقيدة الواحدة.

التّحجج بالمقدس لرفض الاعتذار

إلى حدّ كبير، تفتقد الثقافة العربية فضيلة الاعتذار، وهو ليس انتقاصا من كبرياء شخص أو هيبة مؤسسة، ولكنه يعزّز الثقة بالذات، والقدرة على المراجعة، وإعلاء قيمة القلق، والسير في دروب شكوك ربما تؤدي إلى يقين. ويرى ضحايا جنون العظمة أنهم فوق البشر؛ فيتعالون على الاعتذار. والعسكريون تحديدا لا يعترفون بخطاياهم، وبعضها كارثي ذو طبيعة كونية، فلم يأسف هتلر على جرائمه في حق الإنسانية، وتلاه عسكريون أقل شأنا أفلتوا من العقاب، أو انتهوا نهايات مأساوية، ولم يفكروا في الاعتذار إلى شعوبهم. راجع حالات بينوشيه، حسني مبارك، القذافي، علي عبدالله صالح.

فهل تعتذر المؤسسات الدينية عن اجتهادات لا يُسأل عنها هذا الجيل؟

جاءت الأديان هداية سماوية تعلي من كرامة الإنسان، بتحريره من العبودية إلا لله. ثم احتكرتها مؤسسات بشرية أعاد بعضها إنتاج سياسات سابقة على الدين نفسه. ولا يسيء إلى الدين إلا رجال يمتهنونه، ويرون أنفسهم لا ينطقون عن الهوى. الحروب الصليبيبة أطلق شرارتها البابا أوربان الثاني في فرنسا عام 1095 ميلادي، فاشتعلت في العام التالي، واستمرت حتى عام 1292.

وكلما أراد أحدهم تسويغ سياساته لجأ إلى الدين، وتجلى ذلك في إصرار الرئيس الأميركي السابق جورج بوش على غزو العراق عام 2003، بدعوى أنها "حرب صليبية جديدة". وقد أصبح التباهي بالغزوات، واستعراض «الفتوحات»، ذكرى تنتمي إلى الماضي. وربما آن الأوان لأنسنة المؤسسات الدينية.

في الجدل الحالي بين مؤسسة الأزهر والحكومة المصرية صراع مكتوم، عنوانه تنظيم الفتوى واحتكارها، أما المسكوت عنه فهو الاستحواذ على أداة تضمن بقاء الشعب في بيت الطاعة، فليست الفتوى في شؤون العبادات والمعاملات والمواريث من مهام حكومة تفشل في ملفات أبرزها التعليم والرعاية الصحية.

ولعل رجلا رشيدا يعلن للناس أن الدين الأسبق من الحكومات قد اكتمل قبل مؤسساته التاريخية (جامع الزيتونة، الأزهر، دور للإفتاء في العالم الإسلامي).

وقد صحّ إسلام المسلمين قبل جمع الأحاديث النبوية وتحقيقها وتصنيفها ودراستها. ويسعى مَن يكون الدين مهنته إلى تعظيم دوره، وربما استكبر فلا يتراجع عن اجتهاد ولو كان يخص جيلا سابقا حكمته حدود إدراكه.

يتربص الاستبداد العسكري والديني بالخيال، وحرية الفنون دليل عافية المؤسسات السياسية والدينية. لم يشجب الفاتيكان فيلم "البابوان" (2019). ولم تتزلزل السلطة الفلبينية بإنتاج فيلميْ "ما روزا" (2016) و"ألفا: الحق في القتل" (2018)، وكلاهما عن فساد الشرطة وتواطؤ البعض من أفرادها مع تجار المخدرات.

ولم تتذمر المؤسسة العسكرية المكسيكية من إنتاج فيلم "ترتيب جديد" New order) ) (2020)، ويتناول فشل الجيش في التعامل مع تمرد الفقراء. ونالت الأفلام الثلاثة الأخيرة جوائز بمهرجانات كبرى، وعرضها مهرجان القاهرة السينمائي في سنوات إنتاجها. ويحتمل العالم الحرّ قسوة الاتهام، أما الرقابة المصرية فترفض عرض فيلم «آخر أيام المدينة»، وأحداثه عام 2009؛ لوجود هتاف "يسقط حكم العسكر".

في الجدل الحالي بين مؤسسة الأزهر والحكومة المصرية صراع مكتوم، عنوانه تنظيم الفتوى واحتكارها، أما المسكوت عنه فهو الاستحواذ على أداة تضمن بقاء الشعب في بيت الطاعة

يستقوي الاستبداد العسكري بالسلاح، ويتسلح الاستبداد الديني بالأفكار. ويتصارع طرفان من النوع الأخير، فيدّعي كل طرف أن الله معه. وليس فقه المراجعات جديدا، وقد سبقت إليه الكنيسة فأعادت الاعتبار إلى ضحاياها، وكان على المؤسسات الدينية الإسلامية أن تستفيد من حرق المراحل. بشّر جوردانو برونو (1548 ـ 1600) بالحرية، نافيا أن يكون لأي مؤسسة حق في أن تحدد للناس كيف يفكرون، فاتهم بالهرطقة، ولم يجعله السجن يتخلى عن إيمانه، وقضى الكهنة بحرقه، فخاطبهم "لعلكم أيها القضاة، وأنتم تحكمون بهذا الحكم، تحسون من الفزع والرعب أكثر مما أحس أنا عند سماعي له". وبعد 300 سنة بكاه البابا، وأقيم تمثاله في مكان استشهاده.

إصرار مؤسسة دينية على مواقفها الموروثة سلوك فوق بشري. لا يتلقى الوحي إلا نبي، فيرشده إلى الصواب إذا اتخذ موقفا يحتاج إلى تعديل، وفي القرآن الكريم آيات منها كيفية التعامل مع الأسرى، بالمخالفة لاجتهاد بشري قبل نزول آية "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض". والذين حاكموا المجتهدين لم يزعموا أنهم تلقوا الوحي، وإن قضوا بما يفيد ذلك، وجاءت الأحكام قاسية.

ففي ديباجة حكم هيئة كبار العلماء، عام 1925، بفصل الشيخ علي عبدالرازق من عمله، وإخراجه من "زمرة العلماء" أن كتابه "الإسلام وأصول الحكم" تضمّن "من الأمور المخالفة للدين ولنصوص القرآن الكريم والسنة والنبوية وإجماع الأمة".

قضاة أزهريون حاكموا زميلا اجتهد، وعاقبوه عقابا "دينيا"؛ لقوله إن "الخلافة" ليست من أصول الدين، بل "نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد"، منذ صارت مُلكا على أيدي الأمويين. وفي عام 1945 قضت لجنة من الأزهر بأن الكتاب لا يتعارض مع الدين، وعين المؤلف وزيرا للأوقاف عام 1948. ولم يكن المنصب الوزاري كافيا لمنح الأمان للشيخ، ولازمه الألم، حتى أنه أجاب عن سؤال يخص إعادة نشر الكتاب، عام 1966، بقوله لمحمود أمين العالم "اطبعوا الكتاب كما تشاؤون، لكن دون استئذاني. اطبعوه على مسؤوليتكم، ولا تطلبوا مني إذنا بغير ضمان أكيد أطمئن إليه". وتوفي في سبتمبر 1966، ولم يرَ كتابه مطبوعا.

إرادة الإصلاح قلما تمتلكها مؤسسات تستمد شرعيتها من صيانة موروثاتها وثوابتها. لهذه القاعدة استثناءات تؤكدها في الأزهر، وقد تخرج فيه من رموز الاستنارة رفاعة الطهطاوي وقبله أستاذه حسن العطار، وبعده محمد عبده ومصطفى عبدالرازق وعبدالمتعال الصعيدي ومحمد عبدالله دراز. أعلام تتفاداهم الأضواء، وتتجاهل اجتهاداتهم. وفي الحجاز تضمنت الموسوعة الفقهية المشهورة بالدرر السنية أن "هذا الدين، الذي قام به الشيخ: محمد بن عبدالوهاب… هو الحق، الذي لا شك فيه، ولا ريب؛ وأن: ما وقع في مكة، والمدينة، سابقا، ومصر، والشام، وغيرهما من البلاد، إلى الآن، من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب، أنه: الكفر، المبيح للدم والمال، والموجب للخلود في النار".

فتوى موسوعة الدرر السنية وقعها علماء مكة، وأولهم مفتي مكة طوال 37 عاما خلال الدولة السعودية الأولى (1744 ـ 1818) عبدالملك بن عبدالمنعم القلعي الحنفي، بمؤانسة مفتي الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم. ولو ردّوا الآن ما وسعهم إلا الصمت، وإقرار ما يزع الله بالسلطان ما لم يزع بالقرآن، إذ تغير وجه المملكة، وفي مارس 2018 نسبت "صحيفة واشنطن بوست" إلى ولي العهد محمد بن سلمان أن "انتشار الفكر الوهابي في بلاده يعود إلى الحرب الباردة، عندما طلبت دول حليفة من السعودية استخدام أموالها لمنع تقدم الاتحاد السوفييتي في دول العالم الإسلامي"، وأن الحكومات المتعاقبة "فقدت المسار، والآن نريد العودة إلى الطريق".

فهل تمتلك المؤسسات الدينية شجاعة الاعتذار؟

روائي مصري