هيثم الزبيدي


ثمة الكثير من التفاصيل تستدعي الاحتكار. حتى الكاتب الغربي الذي يكتب عن قضية معينة في بلد عربي مثلا، يكون لديه من يساعده في جمع الحكاية ووضعها في إطارها.

الانطباعات السياحية التي ترافق الكثير من الكتابات عادة ما تكون عامة وسطحية

يجادل بعض الكتاب والمثقفين، وإلى حد أقل القراء العاديين، بجدوى أن يكتب صحافي عن منطقة جغرافية غريبة عنه نسبيا، “ماذا تعرف عن هذا البلد لتخوض في سياساته أو وضعه الاجتماعي؟”. لهم الحق بالطبع، لأن الانطباعات السياحية التي ترافق الكثير من الكتابات عادة ما تكون عامة وسطحية. أقرأ بعض الأحيان كتابات بالعربية أو الإنجليزية عن مناطق أعرفها جيدا فأُصدم. ماذا شرب الكاتب في ذلك الصباح ليكتب عن الأمر بهذا الشكل؟

ولكن العين الخارجية مهمة. ابن البلد أو ابن الإقليم ينغمس في التفاصيل. في كثير من الأحيان تضيع عليه الصورة الأكبر ويحتاج أن يتعلم من آخر أن يتراجع خطوة إلى الوراء كي يرى الصورة بشكل أوضح. هناك كتاب عرب أو غربيون يعيشون في بلدان مشرقية أو في شمال أفريقيا، ويمضون سنوات هناك ويخرجون بانطباعات ساذجة. ثمة آخرون يتمكنون من تسخير أدواتهم المعرفية بشكل أفضل ويستطيعون أن يسهموا في رسم صورة أفضل عن المشهد المحلي أو الإقليمي. الجغرافيا الشخصية للكاتب ليست منطوق حكم قاطع كأنه سجن لصاحبها: اكتب عن بلدك ولا تتفلسف! لحظة. ولكني أقرأ الكثير عما يكتب؛ ألا يحق لي أن أقول شيئا؟

ثم هناك البعد التاريخي. التاريخ بلد أجنبي كما يوصف دائما. كلنا لا نستطيع العودة بالتاريخ. نحن أجانب بالنسبة إلى التاريخ. المؤرخ يقرأ ما كتبه السابقون. المؤرخون الحوليون هم صحافيو ذاك الزمان. أعقبهم مؤرخون محللون. مؤرخ اليوم يكتب عما تركه هؤلاء. هل يستطيع أحد أن يجادل في أن من حقه أن يكتب عن تلك الحقب التاريخية؟ هل من حق مؤرخ مغربي أن يكتب عن بغداد العباسيين أم لا؟ هل من حق مؤرخ غربي أن يكتب عن قاهرة الفاطميين؟ نعم.

ثمة الكثير من التفاصيل تستدعي الاحتكار. حتى الكاتب الغربي الذي يكتب عن قضية معينة في بلد عربي مثلا، يكون لديه من يساعده في جمع الحكاية ووضعها في إطارها. هناك أشياء لا تستطيع أن تحسها من دون الغوص في نمط حياة الشعوب وطريقة نظرها للأشياء. من دون إدراك أن هذا شعب يفكر بطريقة بارانوية، لن تستطيع أن تفهم لماذا يشكك شخص فيما تتحدث فيه وأنت صادق مخلص. من غير فهم لبساطة شعب آخر، ستحتار كيف يصدق محدثك كل ما تقول. لا يمكن الخروج بانطباعات حاسمة، لكن الأمور تبقى محيرة فعلا.

وها نحن نُحشر كلنا أسرى جغرافيا البيت مع كورونا. لا يوجد لدينا الكثير نفعله إلا أن نقرأ ونخرج بانطباعات. صرنا جميعا أجانب عن مجتمعاتنا.