صبا مطر


"كرر ما قلته قبل قليل"، قال الصوت الذي انبثق فجأة من بين طيات فراغٍ مرعب.

" أخطأتُ بحقها"، قال الرجل ممتثلاً للأوامر، ثم راح يبحث بدقة عن مصدر الكلمات التي تفجرّتْ على نحو مفاجئ من داخل حجرة استأجرها قبل أيام قليلة. لا شيء على ما يبدو. لكن من هو الذي تكلّمَ للتو؟

" حسناً.. كرر ما قلته من جديد"، قال الصوت بصلابةٍ وحدّةٍ واضحة.  

" أخطأت بحقها.. اعترف بذلك"، أجابَ الرجل وهو يدير رأسه متفحصاً كل زوايا الغرفة دون أن يعثر على شيء محدد.

" هل لكَ أن تكرر اعترافك بصوت أعلى؟" 

" أخطأتُ بحقهاااا"، قال الرجل بصوت عالٍ ترددَ صداه متكسراً على حافات جدران رطبة وشبه معتمة. كان قد انتقل إلى محل سكنه الجديد بعدما سأم من سكنه القديم والواقع في مدينة لم يخترها بإرادته. 

" الإرادة... يالها من كلمة عميقة. اعتقد بأنني أرجأت استخدامها مذ وصلت إلى هذا المكان الغريب قبل سنوات. وللمفارقة الكبرى أقول بأنني أتيتُ إلى هنا بمحض إرادتي التي تبخرت فيما بعد. أليس الأمر مضحكاً حد البكاء؟".

راح يحث خطاه باتجاه منضدة دائرية كبيرة تتوسط مساحة الغرفة المربعة. تناول من هناك علبة الدخان واشعل سيجارة. ربما هي السيجارة العاشرة بعد المئة التي مجّها ذلك اليوم. عددٌ ذكّرهُ على الفور بخرافات شهرزاد اللذيذة. كان يعشق قراءة حكايات الف ليلة وليلة. حيث يسيح مع مغامرات الأنس والجان والعفاريت ويذوب في مكائد الأشرار العجيبة. " شريرٌ بالفِطرة؟

 ربما أكون كذلك؟ لا أعرف". انتفض رأسه بحركة مفاجئة وهو يخلع ذكرى تلك الحكايات بعيداً عنه.

سأل نفسه وهو يتأمل جمرة سيجارته المشتعلة، "هل أخطأت بحقها حقاً؟ أخشى أنني فعلت". أخفض رأسه وراح يحدق في هاوية انفتحت تحت قدميه. رمي عقب السيجارة إلى الأرض ودعسها بطرف كعبه بقوة. 

أتجه صوب المنضدة من جديد. رفع علبة الدخان واستّل منها سيجارة أخرى. اشعلها وراح ينفث الدخان على شكل دوائر تتشكل وتضمحل في فضاءٍ مجدولٍ بالفراغ. 

" لماذا فعلتَ ذلك؟ " سأل الصوت بنبرة شديدة اللهجة. 

" في الحقيقة لا اعرف.. حسناً ربما أعرف لكنني.... !" سكت دون أن يكمل. كانت هذه عادته كلما حاول التهّرب من الحقيقة. مناورات كلامية شتى يخوضها لينجو من السقوط في فخاخ الكلام الصعبة. 

" هل ضجرتَ منها؟ هل أصبحت عائقاً أمام طريقك الجديد ؟ منذ متى وأنت تصنع قراراتك بنفسك؟ ألم تخلع ثوب الإرادة دون مشيئتك الشخصية مذ أتيت إلى هنا وقبل سنوات عديدة؟ " سأل الصوت بنبرة مُتِجّلِدة.

" لا أدري؟.." أجاب الرجل بانفعال وهو يغرق في دخان التبغ ورائحة الكبريت المحترق. 

لا يعرف تحديداً كيف يشغل وقته من بعد انتهاءه من أولى مهامه العسيرة ليلة البارحة. هل كان ذلك شرطاً للقبول؟ 

توجه بخطاه البطيئة إلى المنضدة مجدداً. اشتراها قبل يومين من متجر للأثاث المستعمل، ولا يعرف لماذا اختارها بهذا الحجم الدائري الكبير. على المنضدة استلقت كومة من أحجار البازل. اشتراها من متجرِ مجاور لِمتجر الأثاث المستعمل. 

" سأجرب ردم وقتي بإعادة تعشيق المكعبات مع بعضها". 

نظر إلى سطح العلبة. كان الرقم " ثلاثة الاف". يملأ الواجهة. أمعن النظر مجدداً، لم تكن هناك صورة تخص النموذج الذي يتوجب عليه تعشيقه. قلب العلبة إلى الجهة الثانية، ثمة ملاحظة مكتوبة بخط ناعم جداً تقول، " اصنع الصورة التي ترغب بها. كل المكعبات في خدمة خيالك أيها الزبون. وهناك خدمة أخرى نقدمها لك. لقد قمنا بترجمة المشاعر إلى أفعال ضمناها لهذه الأحجار التي تنتظر خيالك للشروع بالتنفيذ".

" كيف ذلك؟ كيف لي أن اصنع شكلاً اتخيله بنفسي من صور ومشاعر مبهمة؟ ربما أخطأت في شراء هذه اللعبة. إنها وعلى ايه حال ليست مثالية لحالتي. سأستبدلها بعلبة بازل أخرى تتناسب مع تزجية الوقت ودرء شبح الفراغ المزعج". تراجع بخطاه قليلاً إلى الخلف. تحديداً نحو علبة السجائر التي كانت على وشك النفاذ. سعل بشدة وهو يزفر دخاناً كثيفاً من فمه الذي كان يلوك عقب سيجارة تحتضر. 

" لا يمكن ارجاع العلبة بعد أن فتحتها من غلافها وأزلتُ الملصقات التي كانت تحكم اغلاقها. هذه قوانين السوق. اعرفها منذ زمن. وصل الشراء مع العلبة في وضعها الأصلي. أما وبعد فتحها فلن أتمكن من ارجاعها مطلقاً. فقط في حالة النقص. وهذا ما لن يسعني اثباته قبل تعشيق ثلاثة الاف مكعب مع بعضها البعض. إنه لأمر رهيب، قد لا أقوى على فعله. سأرمي العلبة بمحتوياتها في اقرب حاوية للأزبال غداً.

 أنا، وبعد أن تخليت عن أفضل اشيائي التي أحبها، لم اعد مهتماً بلعبة تافهة كهذه. 

 سأتفرغ بعد قليل لمهمتي الجديدة التي طلبها مني سكان هذه المدينة لأصير واحدٌ منهم". 

طرقعَ أصابع يديه بعد ان شابكهما ببعض ليخفض نسبة التوتر. راح يدور من دون هدف حول المنضدة. 

انبثق الصوت من جديد وبصيغة آمرة هذه المرة، " أصنع لوحتك الخاصة".

" بمفردي؟" سأل مرتبكاً.

" نعم بمفردك. ركّز انتباهك على أحجار البازل واستعن بالمشاعر المرفقة بكل صور. ستجد شيئاً ما يصنعه عقلك بعد أن جرؤت على قتل من لا ذنب لها في معاناتك مع هذا العالم"

أومأ برأسه دون معارضة. أتجه نحو العلبة وافرغ باقي محتوياتها على المنضدة. أحدثت المكعبات جلبة صاخبة وسرعان ما انفتحت الصور على هاوية حقيقية، تساقطت الأحجار إليها واحدة وراء الأخرى وراحت تتشكل من دون أن تمسها أصابعه. رأى نفسه في وقت لا يعرف كيف يصفه، عازماً على فعل شيء ما. ورآها هناك تتشكل من احجار بازل معقدة، على هيئة آدمية. تماوج جسدها بخفة أمام عينيه وراحت تتراقص طرباً مع الحكايات التي تساقطت مثل الورود على وقع خطواتها الرشيقة. 

" هل يعقل بأنني قتلتها؟ يا الهي يبدو بأنني فعلتْ. لكنني لا أملكُ خياراً آخراً للأسف. ما أصعب الاختيار بين أمرين أحلاهما أمرّ. ترى هل أخطأت بحقها؟ وهل كان وجودها عائقاً فعلياً يمنعني عنهم؟"، تحدث مع نفسه بارتياب واضح.

الوقت يشير إلى البارحة. اندلقت على مسامعه هتافات سكان المدينة العالية وهم يصرخون بقوة عِبَر ثغرات جدران نُزُلِه المهمل " أقتلها!". 

أتاه الصوت أمراً وبصيغة رجل واحد. 

نظر إليها بارتباك شديد. رآها تتمدد على سرير اشتراه ايضاً من نفس متجر الأثاث المستعمل. لقد انهكها التعب على ما يبدو من بعد تقديمها أفضل عروضها المعجونة بأنقى الذكريات. تقدم ببطء نحوها. لا يعرف تحديداً إنْ كان بمقدوره تنفيذ الأمر الموجه إليه، أم لا.  

مرت اللحظات عسيرة وطويلة بشكل لا يُصَدق. أمسك بالوسادة وهو مأخوذ بالهتافات التي ملأت أذنيه وعقله. ضغط بقوة على وجهها المستلقي بوداعة الاميرات. فرفر الجسد بقوة تحت ثقل يديه العملاقتين. توترت أصابعه وبرزت عروق زرقاء غامقة على حافات عنقه ووجهه المُكفهّر وعلى وسطح يديه من أثر الضغط الهائل. كان الجسد يواصل حركاته المضطربة بجنون للتخلص من الموت خنقاً. مرّتْ لحظات ثقيلة تعادل سأم الحياة كلها، ثم انتهى بعدها كل شيء. همد الجسد فجأة وتراخت يداه بتمهّل كما تهدّل كتفيه لا ارادياً للأسفل. أرجعَ ظهره قليلاً إلى الوراء ولمعت عيناه لثوانٍ تشي باستعادة الوعي من جديد. ظهر الوجه من تحت الوسادة شاحباً وبارداً مثل كهف مهجور. لم يخف الرجل ولم يتأثر من رؤية الجسد المُسجى بصمت بين يديه الملطختين بالدم. كان قلبه يضّخُ وجعاً غامضاً مخلوطاً بحنقٍ تلّبسه وهو يسحب يديه الملوثتين عن موقع الجريمة. ارتفع دوي تصفيق سكان المدينة الذين راقبوا المشهد عن كثب. انتبه اخيراً بأنه لم يكن وحده، وبأن الملايين قد شهدوا عملية القتل المنظم. قالت الجموع بصوت واحد، " هناك مهمة أخرى بانتظارك يوم غد، وبعد أن تنفذها سيكون لك الحق في الانضمام إلى مجموعتنا إلى الأبد. لا تخف؛ سنكون معك خطوة بخطوة كما كنا اليوم". تفرقت الجموع من بعد هذا الخطاب وهم يضحكون بأصوات عالية.  

قال الصوت بعصبية بالغة، " هل ارتحت الآن بعدما قتلتها؟ هل تشعر بخفة الذي تخلص من عبء شديد الوطأة وبخطة بارعة الإتقان؟ هات حدثني عن شعورك الآن. لكن قبل ان تفعل أرجو أن تخبرني عن حفلة الاستقبال المهيب التي وعدك بها سكان هذه المدينة. حسناً أظن بأنهم قد طلبوا شيء آخر منك قبل رحيلهم ليلة البارحة".

في الحقيقة هو لا يتذكر أحداث البارحة جيداً. ألهذا السبب لم يستطع الإجابة؟

 كانت أحجار البازل تتماوج في عمق هاوية سحيقة. ترى ما الذي ستصنعه الصور والمشاعر؟

التقط العلبة التي تركوها له عند مدخل الباب منذ ليلة البارحة. فتحها. لا شيء غير قناع لوجه آدمي بملامح شديدة الشبه بكل رجال المدينة. تمعّن في الشكل الجديد طويلاً من دون أن يتفوه بكلمة واحدة. أرتفع الصوت مقهقهاً هذه المرة،

 " عليك أن تغير ملامحك إذا؟ هذا شرطهم الجديد لقبولك بينهم بعدما قتلتَ ذاكرتك ليلة البارحة.

 أخبرني الآن.. هل ما زلت تتذكر اسمك؟ أم إنهم وعدوك بانتخاب اسمٍ جديد يتناسب مع هذه الملامح في حفل المواطنة الذي سيقيمونه على شرفك بعد قليل؟".

لا جواب محدد.. صبّ الرجل كامل اهتمامه على الشكل الجديد. 

 ارتفعت حدة الظلام في الخارج ولمعت العيون التي كانت تراقب المشهد القادم عبر ملايين الثغرات في جدران النُزل. إنهم سكان المدينة جاءوا مرة أخرى ليشهدوا حدثاً لا يتكرر كثيراً في تاريخهم القصير. 

نظر إلى وجهه القديم لآخر مرة في قطعة مرآة مثلومة الأطراف. وبلمحة خاطفة رفع القناع عالياً وسرعان ما ذابت كل ملامحه القديمة وكأنها لم تكن!

 كان الالتصاق مؤلماً وباعثاً على الغثيان والاختناق، وما هي إلا لحظات حتى انتهى كل شيء.

جثة هامدة بقناع بادر يعلو الوجه، تتمدد إلى جانب جثة الذكريات التي خنقها بدم بارد ليلة البارحة. التمعت عيون سكان المدينة وهم يراقبون المشهد بفرح عارم. " لا أحد من الغرباء يحق له أن يكون بيننا أيها الأحمق!"، هذا ما صاح به أحدهم قبل أنْ يغادروا المكان وهم يضحكون بملأ أفواههم. 

ارتفع الصوت باكياً في أرجاء الغرفة، وسبحت أحجار البازل في الفراغ بخفة بعد أن صنعت صورة في منتهى الوضوح والدقة. كانت الصورة لغريب بلا أسم ولا ذاكرة يستلقي بلا روح بين ضفتي عالمين في غاية التناقض.