رباح آل جعفر


في العام 1989 كان الشاعر عبد الوهاب البياتي ينزل في فندق شيراتون ببغداد على هامش مهرجان المربد الشعري. أجريت معه مقابلة صحفية لحساب مجلة الرائد العربي الأردنية إلى جانب مقابلة ثانية نشرتها في جريدة العراق.

كانت تلك أول مرة ألتقي فيها البياتي. تحدثنا عن المنفى والمكان، عن باب الشيخ واخناتون ورسائل الإمام الشافعي. تحدثنا عن “سارق النار” ومذكراته الأدبية، عن أستاذه في اللغة العربية في الدراسة الثانوية صادق الملائكة والد الشاعرة الرائدة نازك الملائكة، وأستاذه في دار المعلمين العالية الدكتور مصطفى جواد. عن ذكريات الحرب العالمية الثانية. عن زيارة الحاج أمين الحسيني إلى متوسطة الرصافة، وعن مدرس الرياضيات في المتوسطة القاص ذو النون ايوب وكان قاسياً على الطلاب.

وفي ذلك اللقاء أيضاً سألته عن كتاب مدني صالح “هذا هو البياتي” فأبدى إعجابه الشديد بالكتاب وبأسلوب الكاتب وبذائقته الشعرية المدهشة. ثم سألني: هل تعرف مدني؟!.

قلت: نعم أعرفه عن قرب.

قال: انتظرني دقائق ريثما أعود.

فصعد إلى غرفته يضلع قليلاً في مشيته ويده في جيبه، ثم رجع وفي يده نسختان من ديوانه الشعري “بستان عائشة” أهداني واحدة وطلب مني أن تصل النسخة الثانية إلى الأستاذ مدني مع التحية.

ثم سألني: أين تجده الآن؟.

قلت: في كلية الآداب.

قال: هل تستطيع أن ترتب بيننا موعداً. هل من الممكن أن أزوره في كلية الآداب؟.

أعجبتني الفكرة وتحمّست لها بخيلاء، وتصورت أنني قادر على الجمع في ذلك الوقت بين شاعر وفيلسوف وصحفي. أخذت “بستان عائشة” ومعي أوراق اللقاء ونزلت مسرعاً من مقهى الفندق في اتجاه الباب المعظم حيث كان مدني صالح ينتظرني في قسم الفلسفة بكلية الآداب. وجدته في المحاضرة وكان كعادته مع تلاميذه يقدّم رجلاً ويؤخر أخرى ويحني رأسه أسفل صدره ويداه مشبكوتان خلف ظهره ولمحته يسأل طالباً:

ما الفرق في مفهوم الحرية بين الفيلسوف الإنكليزي جون لوك ومطرب الريف حضيري أبو عزيز؟!.

انتظرته في غرفته حتى يفرغ من محاضرته. فجاءني متهللاً، قال: هات ما عندك.. هات.

قلت: هذا ديوان البياتي الأخير “بستان عائشة” أرسله لك معي ويرغب مقابلتك في مكان أنت تختاره قبل عودته إلى مدريد.

ضحك مقهقاً وضرب بيده على الطاولة التي أمامه من شدة الضحك، وسألني بعجب:

أين البستان؟!.

قلت: في الديوان!.

قال: وأين الديوان؟!.

قلت: في يدك!.

ثم مدّ لي يده وأعاد لي الديوان بهدوء وطلب مني أن أذهب حالاً فأعطيه إلى صديقنا الأديب يوسف نمر ذياب، وإلا فليكن من نصيب الدكتور أحمد مطلوب حتى يضعه والبياتي كلاهما في زنبيل، مثلما فعل مع يوسف نمر ذياب في ديوانه “أباطيل”!.

استغربت الموقف ولم أفهم الحكاية؟.

قال: لقد حاول البياتي أن يزورني في كلية الآداب فأرسل لمقابلتي الدكتور أحمد مطلوب ويوسف نمر ذياب، واعتذرت عن لقائه فليس بيني وبينه من مشتركات!.

قلت: لكنك كتبت عنه كتابك “هذا هو البياتي”؟.

سألني: وهل كان مصدّقاً لما كتبت عنه في هذا الكتاب؟.

قلت: نعم، وكان معجباً غاية الإعجاب فأنت جعلت منه مدرسة رائدة مجددة ومن الأساطين الفاتحين في الشعر العربي الحديث.

قال: الأمر ليس كذلك.. فقد كنت أسخر منه وأضحك عليه وأجعل منه موس حلاقة أحلق به لحى شعراء آخرين.. فوأسفاه!..

ثم انتهى بيننا الحوار حين افترقنا عند باب كلية الآداب فالتفت مدني ليقول لي: دعنا لا نفسد الأعياد على العباد!.