د. باهرة الشيخلي


تفجيري بغداد ليسا سوى سلسلة من نتائج صراعات شبه مستمرة بين قوى فساد ظلامية تقف مع داعش على خط دموي واحد.

مخاوف من بداية صفحة عنف جديدة

أقامت بغداد موكبا جنائزيا لضحايا الانفجار المزدوج الذي هزّ سوقا ببغداد، الخميس، وأسفر عن مقتل 32 شخصا على الأقل وإصابة 110 آخرين.

وللتذكير فإن هذا أول تفجير مزدوج يقع في بغداد، منذ يناير 2018، حين أدى هجوم استهدف المنطقة ذاتها إلى مقتل 35 شخصا وإصابة 90 آخرين.

أثار تفجيرا الخميس في قلب بغداد ردود أفعال عالمية وعربية وعراقية أكثر مما أثارتها تفجيرات سابقة كانت أكبر وضحاياها أكثر.

يسود شك في الشارع العراقي أن هذين التفجيرين، وإن حملا بصمة داعش، لكنهما من صنع إيران وميليشياتها لإيصال رسالة مكتوبة بدماء العراقيين إلى الرئيس الأميركي جو بايدن مع أول يوم له في البيت الأبيض، بأنها قادرة على خلط الأوراق أمام إدارته في أي وقت تشاء.

ويؤكد الخبير القانوني أمير الدعمي أن تفجيرات الباب الشرقي لم تكن مصادفة مع بدء أول يوم من ولاية بايدن صاحب مشروع تقسيم العراق، مضيفا أن لهذه التفجيرات “تبعات سياسية بعيدة، قد يكون هناك ترسيخ للطائفية، هناك محاولة أو تأكيد لمشروع بايدن للتقسيم، خصوصا وأن الأرض اليوم رخوة وخصبة لمثل هكذا مشروع، فهناك بعض القيادات السنية تدفع باتجاه الأقاليم السنية، وهناك نوعا ما تذمر في جنوب العراق من تظاهرات ومحاولة اقتتال شيعية شيعية، لذلك أعتقد أنه ليس من فراغ أن يأتي التفجير في هذا اليوم بالتزامن مع وجود بايدن في البيت الأبيض، لأنه صاحب مشروع تقسيم العراق وهذا المشروع هو من مصلحة إسرائيل”.

بعد التفجير مباشرة نشر عدد من الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي صورة لشخص مُرفقة بالنص الآتي “مصدر أمني: التفجير الانتحاري في وسط بغداد نفذه إرهابي سعودي الجنسية”.

من تدقيق الصورة تبين أن الشخص الظاهر فيها اسمه خالد عايد محمد الوهبي الشمري، وهو الانتحاري الذي فجر نفسهُ محاولا تفجير جامع الحسين في حي العنود في الدمام شرق السعودية في 29 مايو 2015.

وبعد ذلك بقليل ظهر عباس الزيدي المستشار في “قيادة عمليات بغداد” التابعة للحشد الشعبي، ليقول “إن أحد الانتحاريين في التفجير المزدوج الذي استهدف سوقا مزدحمة بمنطقة ساحة الطيران وسط بغداد، كان يحمل الجنسية السعودية وقد دخل عن طريق منفذ عرعر بصفة سائق شاحنة، وما إن تواجد في الداخل حتى تم نقله إلى أحد الملاذات الآمنة المعروفة في بغداد”.

إن هذا النشاط المحموم الذي أبدته الميليشيات الموالية لإيران لاتهام السعودية، منذ اللحظة الأولى التي أعقبت التفجيرين، يطرح أكثر من علامة استفهام وهو الذي جعل صحيفة “مدارات الثورة” الموجهة إلى المتظاهرين العراقيين تعد أن هذين التفجيرين هما جزء من خطة إيرانية تهدف إلى وضع العراق ضمن صفقة مع بايدن.

التفجير المزدوج الذي هز سوقا وسط بغداد يثير مخاوف من بداية صفحة عنف جديدة لن يستفيد منها غير الخطاب الطائفي الذي تتبناه الميليشيات والأحزاب ليصب في صالحها في الانتخابات المقبلة

وتابعت الصحيفة “هذا عمل منظم تريد إيران منه خلط أوراق الإدارة الأميركية الجديدة، وكأن الولايات المتحدة تبالي بموت العراقيين، وهو تفكير حاقد عنوانه أقتل العرب للانتقام من الولايات المتحدة! إنه المجرم الصفوي يظهر أوراقه لبايدن”.

الواقع، أن تفجيرات ساحة الطيران تثير مخاوف من بداية صفحة عنف إرهابية جديدة لن يستفيد منها غير الخطاب الطائفي الذي تتبناه الميليشيات والأحزاب بما يصب في صالحها في الانتخابات المقبلة. فالمنطقة التي وقع فيها التفجيران تعد من المناطق المحصنة أمنيا، بسبب تاريخ من التفجيرات الدموية خلال السنوات الأولى من الاحتلال الأميركي للعراق، بعد سنة 2004، وهي عقدة مواصلات مهمة وقريبة من المنطقة الخضراء وساحة التحرير، معقل الاحتجاجات في بغداد.

يلاحظ الإعلامي العراقي محسن حسين أن جريمة التفجيرات جرت إثر تشكيل الحكومة الحالية من قبل رئيس للاستخبارات وبدعم من دولة كبرى لها شبكات مخابرات في العراق، الأمر الذي يدعو للتساؤل أين كانت الحكومة ورجال الاستخبارات، وهل كانوا يستبعدون أن يصل نشاط داعش إلى بغداد، بعد أن نفذ عمليات متعددة في مدن وقرى العراق الأخرى، شمال بغداد وغربها، بينما نسمع في كل يوم عن خلايا نائمة؟

ولاحظ حسين أن رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة أعلن أن الرد على من سفك دماء العراقيين الطاهرة سيكون قاسيا ومزلزلا وسيرى قادة الظلام الداعشي أي رجال يواجهون، وأصدر أوامر بتغييرات كبرى في الأجهزة الأمنية. مما يدعو إلى التساؤل من هم المقصرون ومن سمح بدخول أفراد من داعش إلى السوق حاملين المتفجرات، وما هو عمل الاستخبارات وقوات الجيش والشرطة إن لم يكن حماية بغداد؟ التحقيق ينبغي أن يبدأ مع المقصرين لينالوا العقاب القانوني أمام الشعب وعائلات الشهداء ليكونوا بذلك عبرة لمن يحل محلهم.

وتساءل حسين إن كانت محاربة الفساد من أهداف الحكومة، حسب برامجها المعلنة، ألا يخطر لها أن الفساد له علاقة بما حدث؟

الحقيقة، إن هذه التفجيرات أثارت التساؤلات مجددا بشأن قدرة حكومة الكاظمي على السيطرة على الأوضاع الأمنية، وسط وجود تنظيمات سنية متطرفة وأخرى شيعية مدعومة من إيران.

يقول المحلل السياسي الدكتور عبدالقادر الجميلي لموقع “الحرة” إن المرحلة الماضية شهدت استقرارا ملحوظا، ولم تسجل خروقات أمنية كبيرة، وربما تقف وراء تفجيري الخميس جهات تسعى إلى محاولة إضعاف مكانة الكاظمي وفكره الأمني والاستراتيجي بصفته رئيسا سابقا لجهاز المخابرات.

وأشار الجميلي إلى نقطة جوهرية، في حديثه، عندما قال “يفترض أن تكون البلاد دولة مؤسسات.. مسألة أن يأتي رجل يدفع ثمن منصبه لا يخدم الناس”، لافتا إلى أن “هناك من يشتري المناصب بالمال لتحقيق مكتسبات شخصية على حساب دماء الناس”، مشيرا إلى أن العراق بات حقل تجارب لأناس يحاولون الوصول إلى هرم الدولة من كتل سياسية ومتنفذين يديرون المشهد في البلاد.

ما ينبغي قوله إن الخلافات الدموية بين ميليشيات الأحزاب الحكومية تظهر على السطح، مرة أخرى. ومرة أخرى، يطرق الموت باب العراقيين فيسقط العشرات من الضحايا من المدنيين.

من أراد أن يبحث عن رأس العلل التي يعاني منها العراق من تدمير وخراب عليه أن يدرك أولا أن ميليشيات “الأخوة الأعداء” تخوض منذ زمن معارك بينية، لاسيما في بغداد والبصرة وكل فصيل منها يحاول أن يستحوذ منفردا لوحده على الجمل وحمولته.

إن تفجيري بغداد ليسا سوى سلسلة من نتائج صراعات شبه مستمرة بين قوى فساد ظلامية تقف مع داعش على خط دموي واحد. بينما الضحية واحدة، هي الشعب العراقي الذي يعاني منذ سنة 2003 ظلما مستطيرا تحت سيطرة الميليشيات الموالية لإيران، التي حولت العراق إلى جحيم مستعر.