د. ماجد السامرائي


العراقيون كانوا يتوقعون من بابا الفاتيكان ألا يترك انطباعاً لديهم بأنه جاء لتعزيز مواقع القتلة واللصوص ناهبي أموال الشعب ورمي حبل الإنقاذ لهم ومنح الظالمين صكوك الغفران المنتهية صلاحيتها.

الأيام المقبلة ستكشف الجوانب السياسية الغامضة في الزيارة

يلوذ الناس بالمعتقدات الدينية والمذهبية ورموزها كحبل إنقاذ حين تصيبهم المحن، وتغيب حلول العقل والسياسة بعد حضور التعصب السياسي الذي يستخدم الخرافة لتطبيع الناس لغرض انقيادهم لرغبات المتحكمين السياسيين.

ما أصاب العراقيين خلال نصف قرن من محن وكوارث وحروب سهّل الطريق للاستسلام إلى طقوس مذهبية وظفتها الأحزاب، وقادت إلى سيادة التطرف والشحن الطائفي، وكان نتاجها التمزق الاجتماعي والاستعداد لجولات من حروب أهلية، مثالها المفزع ما حدث عام 2006 بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، ما أدى إلى خيبة لدى العراقيين مسلمين ومسيحيين، وهروبهم إلى الغربة بعد ترك منازلهم وممتلكاتهم التي سيطرت عليها الميليشيات المسلحة. وأصبح التشبث بالرموز الروحية للإنقاذ واحداً من مخارج المعاناة الإنسانية، لكنها لم ولن تقدم حلولاً بديلة للنضال السياسي.

مفيد التذكير ببعض الحقائق التاريخية، وأبرزها ما عانته شعوب أوروبا من صراعات وحروب دامية لقرون خلال سيطرة الكنيسة على السلطة وتحكمها بثروات الشعوب، وما عُرف بصكوك الغفران التي ظلمت الناس، والصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، حتى تحقق الإنقاذ في عزل الكنيسة عن الحكم وتحويلها إلى دولة رمزية وإعطائها مساحة قرابة نصف كيلومتر مربع من روما.

زيارة البابا لمدينة أور التاريخية في مدينة الناصرية جنوبي العراق أثارت جدلاً تاريخياً وفكرياً وسياسياً ودينياً، حيث اختلف المؤرخون حول مسقط رأس نبي الأنبياء إبراهيم؛ كتبة التلمود قالوا إن أور العراقية هي مكان ولادته. فيما ذكرت روايات أخرى أن أورفا التركية هي مكانها. ويقول كثيرون إن هناك أهدافاً سياسية ودينية يهودية لجعل أور مركزاً عالمياً لهم بعد فشلهم في إثبات موقع هيكل سليمان في القدس المحتلة، حسب رواية عالم الآثار اليهودي نايف بامان.

منعاً لتأويلات أحزاب الحكم وتوظيفها لسبب عدم تحقق زيارة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني للعراق عام 2000 لتبييض صورتها، نذكر شهادة الشيخ عبدالرزاق السعدي المنشورة قبل أيام، أنه كان عضواً في لجنة شُكلت عام 1999 من علماء التاريخ ورجال الدين لبيان الرأي في الزيارة المقترحة، ولم يكن هناك توجيه مسبق بالاعتذار، وقدم أحد أعضاء اللجنة وهو عالم الآثار الراحل بهنام أبوالصوف المبررات التاريخية بالأدلة لمخاطر تلك الزيارة على العراق في ذلك الوقت، أراد البابا إعطاء اليهود الحق في أرض أور وإعلانها مقراً دينياً ومزاراً تشترك فيه كل الأديان. ولقي مقترح الاعتذار إجماعاً من اللجنة المذكورة.

يرى كثير من العراقيين أن بابا الفاتيكان حينها لم يتخذ موقفاً صريحاً من الحرب على العراق، ولم يستنكر تصريح بوش الابن الذي أعلنها حرباً “صليبية” واعتصامه بإحدى الكنائس ليلة ضرب العراق في 17 مارس 2003، وكان يقول بأنه يتحدث مع الرب من أجل القضاء على يأجوج ومأجوج في العراق.

بروتوكول زيارة البابا فرانسيس للعراق اختير بعناية من قبل مستشاري الفاتيكان ومسؤولي الحكم ببغداد، خصوصاً لقاءه بالمرجع الشيعي علي السيستاني بالنجف ودلالات اللقاء السياسية خاصة في ما يعنيه في تفضيل النجف على طهران، وعدم لقاء من يدعي الولاية السياسية والمذهبية على الشيعة علي خامنئي، رغم ما يشاع عن توافق ضمني من قبله لهذه الزيارة. كان من المفيد وفق أهل الموصل تضمين زيارة البابا لمرقد النبي يونس في الموصل.

الجهات العراقية المشرفة على زيارة البابا لم تتح الفرصة لأبناء العراق المنكوبين من النساء الأرامل والأطفال اليتامى لقاء البابا لينقلوا إليه مباشرة الصورة الحقيقية للكارثة الإنسانية التي حلت بهم منذ سبعة عشر عاما وما زالت مستمرة. بدلاً من ذلك زيفوا الصورة، فعرضوا أمامه الدبكات الفولكلورية والشوارع النظيفة ومعالم قصر بغداد. اضطر أطفال العراق للتعبير عن ترحيبهم بزيارة البابا على طريقتهم، حيث تجمعوا في حاراتهم يحملون الورود وينشدون “هلة هلة بابا.. الوطن أصبح خرابة، هلة بابا الفاتيكان أبد ما عدنا أمان”.

في اللقاء الرسمي بين البابا والمسؤولين العراقيين في قصر بغداد ألقى برهم صالح رئيس الجمهورية كلمة، حين نتجاوز ما تركته من تأثير خطابي مؤقت على سامعيه حيث يجيد الخطابة وانتقاء كلمات الوصف بحركاته المعروفة، نجد أنه قد نقل نصف الصورة، وأخفى متعمداً النصف المأساوي المؤلم.

العراق حاليا بنظر برهم هو عهد الخير والرخاء. طبعاً رخاؤه هو وطاقم الحكم وأسرهم. وظّف برهم الأسطوانة التقليدية لأحزاب السلطة في معاناة المعارضين للحكم قبل عام 2003 وانتهاكاته في الأسلحة الكيميائية والاستبداد، لكنه أخفى ما يعانيه العراقيون اليوم، لأن ذكر الحقيقة يدينه هو ورفاقه.

نسي برهم أن الصورة المبهرة لديكور قصر بغداد الذي اجتمعوا فيه هو من إنجازات النظام الدكتاتوري السابق. تحدث عن جرائم داعش عام 2014 لكنه تعمّد إغفال مسلسل جرائم الميليشيات المسلحة ضد أبناء العراق ووجود الآلاف من المغيبين وانتهاكات حقوق الإنسان بقتل شباب ثورة أكتوبر وتهجير المسيحيين عن وطنهم، والاستيلاء على بيوتهم وممتلكاتهم، وآثار مسلسل فساد السلطة في إشاعة الفقر وغياب العدالة وإن غالبية رموز الفساد والقتل كانوا حاضرين في اجتماع البابا. ولم يتمكن برهم من تغييب الإشادة بالحشد الشعبي في خطبته لأنه يعرف نتائج ذلك.

حملت كلمة البابا فرنسيس خلال الاجتماع رسائل سياسية مباشرة مختارة بعناية في عموميات لم تخل من فضح الواقع العراقي، فدعا المسؤولين إلى إشاعة المحبة والعدالة والحوار، وطالب بأن يصمت السلاح وأن تتوقف المصالح الخاصة والمصالح الخارجية التي لا تهتم بالسكان المحليين، والاستماع إلى من يبني ويصنع السلام وعدم استخدام اسم الله لتبرير القتل، ووجوب حماية جميع العراقيين والاعتراف بالآخر واحترام القانون.

هذه إدانة مباشرة للميليشيات ولزعاماتها العسكرية والسياسية رغم أن البابا لم يذكر صفحة المجد الجديدة بثورة شباب أكتوبر السلمية.

الكلمات الطيبة والمنصفة للعراقيين لا تكفي وحدها. قسم كبير من أبناء العراق يرفعون أكفهم يومياً بالدعاء للخلاص من الوضع الحالي لكن من دون جدوى. حال العراق اليوم لا ينقذ منها الدعاء والمواساة، إلا إذا تمكن من تعود ضمائرهم للحياة من القادة السياسيين لإنقاذ الشعب. وهو افتراض بعيد المنال. فهم متورطون بجريمة معاناة شعب العراق. وبدلاً عن ذلك لجأوا لاتخاذ قرارات شكلية تعودوا عليها لتبييض وجوهم مثل قرار مصطفى الكاظمي اعتبار السادس من مارس من كل عام يوماً للتسامح والتعايش في العراق.

العراقيون يعتزون بإكرام ضيفهم، لكنهم كانوا يتوقعون من بابا الفاتيكان ألا يترك انطباعاً لديهم بأنه جاء لتعزيز مواقع القتلة واللصوص ناهبي أموال الشعب ورمي حبل الإنقاذ لهم، ومنح الظالمين وعساكرهم صكوك الغفران المنتهية صلاحيتها بعد انتهاء زيارته.

جوانب سياسية غامضة في زيارة البابا للعراق ستكشفها الأيام المقبلة.

كاتب عراقي