بقلم: الكاتب والباحث السياسي
الدكتور أنمار نزار الدروبي
في البداية لا بد التمييز بين النظام الدولي القائم حاليا وبين النظام العالمي القائم حاليا، النظام الدولي يعكس موازين القوى بين القوى الرئيسية فيه، أما النظام العالمي فهو يوضح درجات عالية من الاعتماد المتبادل في مجالات مختلفة بين الدول على سبيل المثال لا الحصر، ملف وباء جائحة كورونا، الإرهاب، ملف الطاقة، والمناخ وغيرها. من هنا فإن الدول بعضها البعض في تناقض ما بين النظام الدولي والنظام العالمي، وما يترتب على هذا التناقض أن تجري عملية مراجعة لنتائج الحرب الباردة، لاسيما أن هذه المراجعة هي جزء من طبيعة النظام الدولي مع كل حدث عالمي، مثل الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية إلى انتهاء الحرب الباردة، وقبل كل هذه الحروب كانت الحروب النابليونية في القرن التاسع عشر. بيد أن هذه المراجعة تؤدي إلى درجة من التوترات التي يشهدها العالم اليوم.
ما يحدث اليوم في أوكرانيا هي حركة تصحيح تاريخي واستراتيجي لما هو قادم في إطار نظام دولي بتشكل من جديد:
من الناحية التاريخية: فإن تحرك بوتين اتجاه أوكرانيا له مبررات تاريخية، لأن الوقائع التاريخية تؤكد على أن هناك صلة وثيقة بين أوكرانيا مع روسيا سواء كانت روسيا القيصرية أو روسيا الشيوعية، بدليل أن كييف عاصمة أوكرانيا كانت تسمى (روسيا الكييفية). وإذا ما تحدثنا عن تبلور أول كيان سياسي في هذه المنطقة في القرن الثالث عشر هو (كييف روسيا) إلى درجة أن روسيا في أثناء الفترة الشيوعية تخلت طوعا عن أقاليم كانت تابعة لها مثل شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا، مع العرض أن روسيا حصلت عليها بالحرب مع الإمبراطورية العثمانية.
فيما يخص التصحيح الاستراتيجي، كما ذكرنا لأكثر من مرة يرجع هذه التصحيح إلى ما انتهت به الحرب الباردة، تلك الحرب التي تركت أسئلة معلقة، وهذ الأسئلة تُذكرنا بنهاية الحرب العالمية الأولى والغرامات والتبعات الكبيرة التي كانت على عاتق ألمانيا، فحاولت ألمانيا تصحيح الطريقة التي انتهت بها الحرب العالمية الأولى والتي ترتب عليها الحرب العالمية الثانية، فأنتهى الأمر إلى خلق نظام دولي جديد. بمعنى أن الطريقة الخاطئة التي انتهت بها الحرب الباردة كانت نتائجها ما يشهده العالم اليوم من صراعات، وروسيا تحاول تصحيح الاخطاء مما سينتهي الأمر إلى خلق نظام دولي جديد، بدليل لم نعد نتحدث عن احتمالات وإنما نتحدث عن حالة قائمة.
البعد العقائدي في الأزمة:
أبرز ما يمكن الإشارة إليه هي العملية الانتحارية التي قام بها الجندي أو الضابط الاوكراني الذي فجر نفسه قبل يومين على جسر في أوكرانيا لتعطيل تقدم دبابة تابعة للجيش الروسي، وهذا أكبر دليل على فكرة النضال المسلح وحرب الشوارع، إذن هي الأيديولوجيا أو العقيدة، لأن مثل هكذا عمليات انتحارية تخرج الصراع الروسي_ الأوكراني من أبعاده السياسية والعسكرية والاستراتيجية ليجعل منه صراعا أيديولوجيا.
في مسألة الأيديولوجيا يوضح الكاتب والصحفي الأمريكي الشهير توماس فريدمان في كتابه بعنوان (السيارة ليكساس وشجرة الزيتون: محاولة لفهم العولمة) " أنه هناك ناس تعيش على الماضي مع غضن الزيتون وهو عصر الهويات والقوميات والصراعات الدينية والقومية، وناس تعيش في عصر المستقبل وعالم التكنلوجيا والذكاء الصناعي".
واستنادا لفريدمان، أن التصور الغربي يعتقد أن عصر القوميات والهويات قد ولى وهذا هو العالم الجديد، بينما نفاجئ أن الأمر لا يستغرق أكثر من ثلاثة عقود لنكتشف أن العالم ما يزال فيه قوميات وهويات.
الموقف الأمريكي والغربي من الأزمة وهل كانت ردود الفعل الغربية على قدر تحدي الروس أم أقل؟
من المعروف أن النطاق الجغرافي للحلف الأطلنطي هو أمريكا، المحيط الأطلنطي وأوربا، لأنه أساس هذا الحلف كان ضد حلف وارشو، أما التطور الاستراتيجي الجديد هو لأول مرة ذكرت فيه الصين. وفي عصرنا هذا أصبح الحلف الأطلنطي لا يقتصر دوره على نطاقه الجغرافي فقط بل أصبح يغطي أية نقطة في العالم. وعندما نتحدث عن الغرب فإنه ليس كتلة متجانسة وخصوصا في التعامل مع روسيا وتحديدا التعامل مع الرئيس بوتين، بينما الذي يقود الغرب هي الولايات المتحدة الأمريكية منذ وصول الرئيس الأمريكي بايدن للحكم، وحديث بايدن في حملته الانتخابية أو بعد انتخابه الذي ركز فيه على الآتي:
1. أعلن بايدن إن إدارته ستعمل جاهدة على إنشاء تحالف الديمقراطيات اتجاه الأوتوقراطيات (بعد أيديولوجي في الخطاب). وعليه فورا عقد بايدن أول قمة للديمقراطية في ديسمبر من عام 2021 وستعقد القمة الثانية بعد عام. لهذا فإن المقدمات كانت تشير إلى أن النظام الدولي الذي أخذ بالتشكيل في طريقه إلى صدام، لكن هذا الصدام لم يكن معروف، سيما أن التنبؤات تشير إلى أن الصدام قد يكون ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وشركائها من جانب، والجانب الثاني بين الصين في الدرجة الأولى وروسيا في الدرجة الثانية.
2. البدء في إنشاء مجموعة من التحالفات من ضمنها تحالف (أوكس) الذي أعلن في سبتمبر عام 2021 والذي يضم كل من (استراليا، بريطانيا، الولايات المتحدة الأمريكية).
3. في أول قمة عقدها بايدن في مارس عام 2021 جمع فيها ما يسمى بالرباعية (أمريكا، استراليا، اليابان، الهند). حيث كان الهدف من هذه القمة وهذا التحالف هو احتواء الصين وبحسب التصريحات الأمريكية.
4. في قمة حلف الأطلنطي التي عقدت في يونيو/ حزيران عام 2021 تقرر أنه في شهر يونيو عام 2022 ستعقد قمة للحلف في مدريد وسيصدر عن الحلف في هذه القمة ما يسمى (بالإطار الاستراتيجي للحلف) وقد ترتب على هذا أن أمريكا أجلت اصدار وثيقة الدفاع الوطني ووثيقة الاستعداد النووي للولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما أن الولايات المتحدة الأمريكية تصدر هاتين الوثيقتين بشكل دوري كل خمسة سنوات بحسب القانون الأمريكي بغض النظر عما إذا كانت الإدارة الأمريكية جمهورية أو ديمقراطية. بمعنى أن إدارة بايدن أجلت إصدار هذه الوثائق المهمة للغاية لكي تتناسب مع مقررات واستراتيجية الحلف. بالنتيجة فإن الإطار الاستراتيجي الذي سيصدر في قمة حلف النيتو في مدريد سيأخذ بنطر الاعتبار أحداث أوكرانيا وكيفية التعامل معها.
ما هو وضع روسيا في النظام الدولي الجديد؟
الرئيس الروسي بوتين كان يراقب كل هذه التحركات واستطاع أن يقرأ استراتيجية بايدن قراءة عميقة وقراءة صحيحة، بمعنى أن بوتين يرى أن وجهة نظر الاستراتيجية الأمريكية تعتبر الصين هي المنافس الأول أو الخصم الأول. لكن وبحسب بوتين روسيا لها وجود، في السياق ذاته إن التحول نحو نظام متعدد الاقطاب هو الشعار الذي رفعته كل من الصين وروسيا منذ عدة سنوات، والعالم اليوم أمام تنفيذه بوجود قطب مثل روسيا يستطيع أن يأخذ قرارات جوهرية باستقلال تام عن المؤثرات الغربية. في الجانب الآخر الغرب في حالة حيرة والبحث عن الرد المناسب على روسيا. وهذا يلغي الحسابات والقواعد الخاصة للنظام الدولي قبل عدة سنوات بانفراد الولايات المتحدة الأمريكية وانفراد الغرب في توجيه مسار النظام الدولي وقيادته أصبح اليوم أمر منتهيا.
انعكاس تشكيل النظام الدولي الجديد على الشرق الأوسط:
بلا شك ستؤثر هذه المراجعات على الشرق الأوسط بالمعنى الجيوبولتيكية (الجغرافية السياسية) للدول العربية وتركيا وإيران وكذلك إسرائيل ومدى ارتباط الأخيرة بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط وأثيوبيا وارتباطها بهذه المنطقة تعاونا وتناقضا في نفس الوقت. الأمر المهم أن هذه المنطقة المسماة بالشرق الأوسط تعرض القلب العربي فيها لهزة جبارة في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين وهو ما يسمى بالربيع العربي الذي أحدث زلزال كبير في المنطقة، مما ترتب عليه نتائج مروعة كالحرب الأهلية في سوريا واليمن، إضافة إلى تناقضات شديدة في ليبيا والسودان، مع صعود كبير ومخيف للراديكالية الإسلامية بإشكالها المختلفة. وعليه فإن منطقة الشرق الأوسط أصبحت في خطر، وبينما العالم مشغول بالحشود الروسية وأوكرانيا، بيانات هنا وهناك من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وليس هناك الاهتمام الكافي فيما يتعلق بالتسلح النووي الإيراني، وقبلها الصواريخ الحوثية في ضرب أبو ظبي. إذن كل هذه الأحداث خلقت خلل كبير في المنطقة، وعلى الدول العربية ألا تقع أسيرة للعمليات التكتيكية على حساب الأوضاع الاستراتيجية، لأن سمات الأزمة الدولية في طبيعتها تحمل نوعا كبيرا من هذه التكتيكات.
0 تعليقات
إرسال تعليق