نسرين ولها أديبة و شاعرة تونسية
إثر كلامها الذي يُطيّب النفس، بدأ الشّعور بالخوف يفرّ من قلبِ حمزة و حلّت مكانه طمأنينة و تسرّبت روح المُغامرة إلى أطرافه. كانت حياته في السباق زاهية و خاوية تُشبه ملامح الموناليزا في ازدواجيّتها، مُذهلة و غامضة في نفس الوقت، و ها هي الأمور تَتَّخِذُ منحى جديد فجأة.
لمّا اِستأنس حمزة بالحوار مع ريناد قال بلطفٍ:
- هل بإمكانك مُعالجتي؟
- بالتّأكيد
-أخبرتني المرأة العجوز التي تسكن في الجوار بأنّك طبيبة عندما رأت إصابتي ..أقصد.. اِعتبري الأمر دينٌ ..و ما إن أتحسّن سأبحث عن عمل و أدفع لك مصاريف العلاج.
- لا لوم عليكَ ..و لا تُفكّر غير في استعادة ذاكرتك و عافيتك ..لا يهمّني المال بقدر ما أكترثُ للذات الإنسانيّة ..أرجو أن أُفيدك و ذلك هو الأهم.
- أشكرك كثيرًا ..أخبرتني جارتك بأنّها صديقتك و بعدما لمسته من حُسن أخلاقك و كرمك معي بتُّ أتمنى أن أحوز لديك نفس المكانة .
ضَمّت ريناد يديها إلى جسدها كأنّما تستعيدُ اِتّزانها بعد ما سمعته منه و أضافت:
-لا بأس في ذلك ..أنا صديقةُ الكلّ طالمَا الاحترامُ و التّقدير مُتبادل بيننا .
والآن، اِسمح لي أن أنصرف قليلاً، لديّ بعض المسؤوليّات يجب أن أُتمّها في وقتها.
رفعَ حمزة حاجبيه و كادَ يطلب منها أن تبقى أكثر معه لو لا أن باغتته ريناد قائلةً:
-حاول أن تسترخيَ قليلاً، سأمرّ عليك في وقتٍ لاحقٍ ..الله يشفيك.
ثُمّ أطلقت الطبيبة العنان لقدميها و طفقت تجوب أروقة البيت مُبتعدةً عن حمزة مُتّجهةً نحو وجهات أخرى ضروريّة أيضًا، ذلك أنّ موعد الغداء قد اقترب و العصافير التي تُعشّش في بطون أبنائها تكادُ تُزقزق جوعًا.
ظلّ حمزة وحيدًا، و تذكّر شعوره وهو مشلول الحركة في سيّارته التي فعل بها الحادث الأفاعيل فحوّلها من واحدة فارهة إلى أخرى بالية. مزيج من الخوف و الفزعِ طافَ به بُرهة من الزّمن كزائرٍ خفيف الظّل ، لكن سرعان ما استعاد عزيمته و رباطة جأشه إذْ ما عاد مرعُوبًا كما كان منذ سُويعاتٍ ، لكنّه ما يزالُ قلقًا على نحو معقولٍ.
بغتةً، وقعت ألحاظه على ظِلٍّ افترش الأرض على مقربةٍ من سريره و قبل أن يرفع بصره إلى مصدر الصّورة فُوجِئ بلمسةٍ ناعمةٍ على يده. فانهال حمزة على تلك اليد الصّغيرة و أحكم قبضته عليها مثلما يُقبض على الفريسة تمامًا. فاستدرك الصّبيّ و قال بصوتٍ يَشُوبه الارتباك :
-مهلاً يا سيّد حمزة! أردتُ أن أرحّب بك فحسب.
خفّفَ حمزة من شدّة تقلّص عضلات يده على أنامل ذلك الولد و عدّلَ من جلسته و أردف بودٍّ:
-ما اسمك أيّها الوسيم؟
- ياسر.
حَدَّجَهُ حمزة بنظراته العميقة، بَدَا له صبيًّا يافعًا ذا ملامح ليّنة يحمل مسحة من الجاذبيّة بعيونه الواسعة و أهدابه الغزيرة و شعره البنيّ القصير و بشرته البيضاء. و في المُقابل ، بدأ ياسر يَجُول في الغرفة ويتأمّله هو الآخر مُقلّبًا عينيه في تفاصل جسمه باحثًا عن مكمن ألمه ثمّ سأله :
-أنت غريبٌ عن المكان ..أليس كذلك؟
-لا أدري ..أحسبُ ذلك .
-ألكَ صديقٌ هنا ؟
- ليس بعد ..لكن بإمكاننا أنَا و أنتَ أنْ نكون صديقين ..ما هو رأيك ؟
باح حمزة بتلك الكلمات باسِمًا رُغم كلّ ما مرّ على رأسه من أهوالٍ، و أخيرًا طلعت من ثنيّات شفاهه ابتسامةٌ مُشرقةٌ. فالمرءُ، غالبًا ما يستعيدُ براءته و مرحه في رحابِ الطّفولة.
صمتٌ عابرٌ رانَ عليهما قبل أن يتفوّه الصبيّ بإجابته :
-أصدقاءٌ بشرط أن تلعبَ معي الكُرة.
و انفلتت من صدر حمزة قهقهات عالية ، إذْ بمُجرّد ذِكر سيرة الكُرة تنبسط أسارير الرّجال و الأولاد على حدّ السّواءِ و تتحوّل الأجواء إلى صُراخٍ و هُتافٍ و سعادةٍ عارمةٍ ليسَ لها مثيلٌ .
0 تعليقات
إرسال تعليق