د.قحطان صديق

قد لا يعرف الكثيرون ان صالح مهدي عماش رحمه الله ( توفي في العام 1985 في مستشفى في هلسنكي حيث كان سفيرا في فنلندة) الذي شغل منصب وزير الدفاع 1963 ومنصب وزير الداخلية 1968 ،كان شاعرا وكانت تربطه صداقة كبيرة بشاعر العرب محمد مهدي الجواهري رحمه الله ( ولد في 26 تموز 1899 وتوفي في 27 تموز 1997) وان هذه الصداقة استمرت بين الرجلين دون ان تعكرها السياسة واختلاف وجهات النظر ..حتى ان صالح مهدي عماش استقبل الجواهري حين عودته الى العراق بقصيدة على نفس قافية ووزن قصيدة (ارح ركابك) التي  كان قد قالها الجواهري وهو يشكو الغربة متفائلا بعودته الى العراق بعد  ثورة تموز 1968 ومؤملا نفسه بانفتاح وتغيير للاوضاع..
أرح ركابكَ من أينٍ ومن عثَرِ......كفاك جيلانِ محمولاً على خطر
كفاك موحشُ دربٍ رُحتَ تَقطعهُ.....كأنَّ مغبرَّة ليل بلا سحَرِ
ويا أخا الطير في ورْد ٍ وفي صَدَرٍ..في كلَّ يومٍ له عُشٌ على شجرِ
فاجابه عماش وهو يستقبله بحفل مع عبدالله سلوم السامرائي وصلاح عمر العلي وشاذل طاقة..بقصيدة عارض فيها قصيدته مطلعها
أرحْ ركابكَ من أين ومن عثر... هيهات مالك بعد اليوم من سفرِ
فضحك الجواهري قائلا ..اذن ستمنعني من السفر مستخدما صلاحياتك.!!
كانت ايضا للمرحوم عماش علاقة صداقة مع الشاعر العراقي اليهودي انور شاؤول (1904-1984)، وعندما تعرض اليهود للمضايقة والمطاردة في بداية السبعينات، القي القبض على انور شاؤول وزج في السجن وكان على وشك ان يعدم فتذكر صديقه صالح مهدي عماش فارسل له هذه القصيدة..

إن كنتُ من موسى قبسْتُ عقيدتي
فأنا المقيم بظل دين محمد
وسماحة الإسلام كانت موئلي
وبلاغة القرآن كانت موردي
ما نال من حبي لأمة أحمد
كوني على دين الكليم تعبدي
سأظل ذيّاك السموأل في الوفا
أَسَعِدتُ في بغداد أم لم أَسْعدِ

فتأثر عماش كثيرا وكان وزيرا للداخلية فاخذها الى احمد حسن البكر رحمه الله، فقرأها وامر فورا باطلاق سراحه  والسماح له بالسفر ..
في بداية السبعينات  ابتكر صالح مهدي عماش ضمن صلاحياته كوزير للداخلية (شرطة الاداب)..وكانت في تلك الفترة قد انتشرت تقليعة ال ميني جوب mini jupe والتنورة الاقصر منها وهو الميكرو جوب  micro jupe، (جوب تنورة بالفرنسية)... فاثار ذلك حفيظة صالح مهدي عماش فاوعز الى شرطة الاداب الى الحد من هذه الظاهرة ومعاقبة الفتيات بصبغ سيقانهن بالاسود وكذلك لمتابعة الخنافس (تقليعة الشباب حينذاك) وقص شعورهم ومحاسبتهم على "السلوف"..طبعا اثار ذلك العمل انتقادا واسعا في بغداد بالذات فقد كان يصيب الفتيات الهلع وهن يعاملن بقسوة ..فنشر الجواهري في احدى الصحف قصيدة سماها (رسالة مملحة) الى عماش..

"أأبى هدى شوق يلح * ولاعج يذكي الشغافا
شوق المبارح لم يغيره * البعاد، ولا تجافى
نبئتُ انك توسع          * الازياء عتاً واعتسافا
تقفو خطى المتأنقات * كسالك الأثر اقتيافا
وتقيس بالافتار أردية بحجة أن تنافى
ماذا تنافي ؟، بل وماذا ثمَّ من أمر ٍ يُنافى
أترى العفافَ مقاسَ أردية ٍ، ظلمتَ أذاً عفافا
هو في الضمائر ِ لا تخاط ُ ولا تقصُّ ولا تكافى
من لم يخفْ عقبى الضمير ِ ، فمنْ سواهُ لن يخاف

فاجابه عماش بقصيدة ايضا

"فعلام نمرح والسويس* تدك بالنار انقذافا
للاجئات المقبلات * الطول اولى ان يضافا
«راشيل» تضربنا * رصاصا دمدماً غدراً بيافا
و«الموشي» يغترف * الدماء القانيات بها اغترافا
وشبابنا يتخنثون * «خنافساً» هوجاً عجافا
انا نريد مآثراً * لا قصر اردية كفافا
نبغي من النسوان * تربية البراعم والعفافا
سلها، أيعجبها المخنفس * ان يزف لها زفافا

وخلال زيارة خاطفة لوزير الداخلية الى جيكوسلفاكيا اقتطع عماش من وقته ليزور صديقه الجواهري في مقهاه الذي لا يفارقه في براغ ويتحدث اليه بحديث الصديق الى الصديق
وحتى وعماش منفيا سفيرا في هلسنكي التي قضى وتوفي فيها وفاة مريبة..لم ينس ان يوجه الدعوة لصديقه فيستقبله ويتحمل تكاليف الاقامة والسفر من جيبه الخاص لكي يتواصل مع صديق جمع بينهم الادب وفرقتهم السياسة..