د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث مصري
تزخر مصر المحروسة بحواديتها الفريدة التي تعانق الخيال ..تنوع مبهر وإرث مذهل قلما تجد له نظير بالعالم على مر العصور .
موضوع حكايتنا اليوم عن مسجد فريد من حيث التصميم وفريد من حيث شخصية صاحبة وفريد في موقعه الغريب إنه مسجد الشيخ شاهين الخلوتى .
المسجد بسيط في تركيبه قائما على أربعة أعمدة من الحجر وبقبلته قطع من الرخام الملون والصدف وله مأذنة شامخة وكان به بئر للمياه قديما والمسجد تم نحته في جبل المقطم في بقعة تسمى وادي المستضعفين أو الأباجية حاليا على غرار المعابد الفرعونية كمعبد حتشبسوت بمصر ومدينة البتراء ذات المنحوتات الجبلية والصخرية الشاهقة في الأردن وهو نمط من البناء لم تعهده العمارة الإسلامية كثيرا إلا بالحصون التي تزود عن المدن قديما .بنى هذا المسجد الشيخ جمال الدين عبد الله ليخلد ذكرى أبيه الصوفي الزاهد الشيخ شاهين بن عبد الله ويالها من ذكرى تحمل في طياتها قصة مثيرة فالأب الزاهد كان أحد مماليك السلطان الأشرف قايتباي حملته الأقدار من موطنه بمدينة تبريز ببلاد فارس ليستقر بمصر عبدا مملوكا لسيده السلطان.كان شاهين من المماليك الجلبان وهم المماليك الذين يتم جلبهم من بلادهم كبارا بالسن غير أنه سرعان ما سئم حياة الجندية فاستأذن السلطان في مغادرته فأذن له وخرج إلى رحابة التصوف والزهد والانقطاع للعبادة فطرق رحلة الأسفار بحثا عن مجالسة العلماء وتلقي العلم منهم فتعلم على يدي العارف بالله الشيخ عمر الروشنى بمنبته الأول ومسقط رأسه بمدينة تبريز ومع عودته لمصر أصبح مرافقا للشيخ محمد الدمرداش بالعباسية ومن أقرب مريديه حتى أطلق عليه شاهين الدمرداشي المحمدي فضلا عن الشيخ أحمد بن عقبة اليمني وحسين جلبي وبعد وفاة الشيخ الدمرداش اعتزل الشيخ شاهين الناس واختار جبل المقطم لسكنه ولكن زيارات الأمراء والأعيان لم تنقطع عن مجلسه للتبرك به والفوز بكراماته كما كان ملاذا وقبلة للمتصوفة والزهاد وكان كثير السهر متقشفا في ثيابه لا ينطق من فيه إلا بالنذر اليسير .وقد احتل المسجد حيزا لا بأس به من كتابات الرحالة فكتب عنه الرحالة عبد الغني النابلسى الدمشقي في كتابه (الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز) .
لا نملك معلومات كثيرة عن ظروف نحت المسجد الذي ضم رفات الشيخ شاهين وولده جمال الدين وولد ولده محمد سوى أنه تم في عهد داود باشا بن عبد الرحمن اكتمال الشهير بالخصي والي مصر العثماني من قبل السلطان العثماني سليمان القانوني والذي أعتقه حينما دب خلاف بينه وبين الشيخ أحمد عبد الحق السنباطي لكونه عبد خصي والعبيد لا يحكمون الأحرار وأحكامهم باطلة والغريب أن السلطان سليمان القانوني كافأ الشيخ السنباطي بجعله أول من يتولى مشيخة الأزهر في أشهر الرويات والسنباطي أيضا هو صاحب فتوى تحريم القهوة قديما !!! . موقف السنباطي مع داود يستدعي من التاريخ موقف مشابه للشيخ العز بن عبد السلام مع الأمراء المماليك زمن السلطان الأيوبي نجم الدين أيوب .
وقد أقام داود جامعا كبيرا سمي الجامع العتيق أو مسجد داود باشا بالسيدة زينب كما حفظ التاريخ اسمه من نسبة كفتة داود إليه والتي صنعت في عهده بمقادير معينة وخلطة خاصة كان يكافىء ويعاقب بسببها خدمه فبقيت إلى اليوم تحفظ اسمه وسيرته.
نعود لمسجدنا ونسأل عن سر المكان ولماذا جبل المقطم تحديدا ؟ والإجابة ربما لأنه الخلوة الذي اعتزل فيه الشيخ شاهين الناس في رحلة تعبدية أشبه برحلة النبي صلى الله عليه وسلم للتعبد في غار حراء أو لأن جبل المقطم ترسخ في عقول أهل مصر مسلميها ومسيحيها "أنه غرس أهل الجنة وفيه يدفن أمة أخي محمد "كما جاء بمقولة السيد المسيح لأمه العذراء مريم في رحلتهما المقدسة لمصر وانتقلت المكانة إلى المسلمين مما جعل العديد من الصوفيين الآخرين يدفنون به كسلطان العاشقين الشاعر الصوفي عمر بن الفارض ومن حكام مصر عمرو بن العاص الصحابي الجليل وكذلك أحمد بن طولون ومن بعده الطولونيين بالقرافة الكبرى واللافت أن الحاكمين كان لهما مسجدين كبيرين ومع ذلك آثرا أن يدفنا في هذا البقعة المباركة .
وقد تباينت الرؤى حول سبب تسميته بجبل المقطم فقيل أنه من القطم أي قطع الشجر والنبات وقيل نسبة إلى العبد الصالح المقطم بن بيصر بن مصر بن حام بن نوح وقيل نسبة إلى الكيميائي مقيطام الحكيم الذي أوكل إليه مصرايم ملك مصر استخراج الذهب والزبرجد والفيروز وغيرها من المعادن بالجبل !!.كما يحتفظ التراث المسيحي بقصة طريفة حول تحريك جبل المقطم من شرق القاهرة إلى موضعه الحالي في عهد المعز لدين الله الفاطمي!!!.
إنها مصر المحروسة وحودايتها التاريخية التي تحرك القلوب وتسحر الألباب عبر الزمان .
المراجع والمصادر :
1-كتاب مرشد الزوار إلى قبور الأبرار مرشد الزوار الى قبور الابرار : المسمى الدر المنظم فى زيارة الجبل المقطم
لموفق الدين بن عثمان الفقيه
2-كتاب هوامش المقريزي حكايات من مصر لصلاح عيسى.
3-كتاب الكواكب السيارة : فى ترتيب الزيارة فى القرافتين الكبرى والصغرى لشمس الدين محمد ابن الزيات.
كاتب وباحث مصري
تزخر مصر المحروسة بحواديتها الفريدة التي تعانق الخيال ..تنوع مبهر وإرث مذهل قلما تجد له نظير بالعالم على مر العصور .
موضوع حكايتنا اليوم عن مسجد فريد من حيث التصميم وفريد من حيث شخصية صاحبة وفريد في موقعه الغريب إنه مسجد الشيخ شاهين الخلوتى .
المسجد بسيط في تركيبه قائما على أربعة أعمدة من الحجر وبقبلته قطع من الرخام الملون والصدف وله مأذنة شامخة وكان به بئر للمياه قديما والمسجد تم نحته في جبل المقطم في بقعة تسمى وادي المستضعفين أو الأباجية حاليا على غرار المعابد الفرعونية كمعبد حتشبسوت بمصر ومدينة البتراء ذات المنحوتات الجبلية والصخرية الشاهقة في الأردن وهو نمط من البناء لم تعهده العمارة الإسلامية كثيرا إلا بالحصون التي تزود عن المدن قديما .بنى هذا المسجد الشيخ جمال الدين عبد الله ليخلد ذكرى أبيه الصوفي الزاهد الشيخ شاهين بن عبد الله ويالها من ذكرى تحمل في طياتها قصة مثيرة فالأب الزاهد كان أحد مماليك السلطان الأشرف قايتباي حملته الأقدار من موطنه بمدينة تبريز ببلاد فارس ليستقر بمصر عبدا مملوكا لسيده السلطان.كان شاهين من المماليك الجلبان وهم المماليك الذين يتم جلبهم من بلادهم كبارا بالسن غير أنه سرعان ما سئم حياة الجندية فاستأذن السلطان في مغادرته فأذن له وخرج إلى رحابة التصوف والزهد والانقطاع للعبادة فطرق رحلة الأسفار بحثا عن مجالسة العلماء وتلقي العلم منهم فتعلم على يدي العارف بالله الشيخ عمر الروشنى بمنبته الأول ومسقط رأسه بمدينة تبريز ومع عودته لمصر أصبح مرافقا للشيخ محمد الدمرداش بالعباسية ومن أقرب مريديه حتى أطلق عليه شاهين الدمرداشي المحمدي فضلا عن الشيخ أحمد بن عقبة اليمني وحسين جلبي وبعد وفاة الشيخ الدمرداش اعتزل الشيخ شاهين الناس واختار جبل المقطم لسكنه ولكن زيارات الأمراء والأعيان لم تنقطع عن مجلسه للتبرك به والفوز بكراماته كما كان ملاذا وقبلة للمتصوفة والزهاد وكان كثير السهر متقشفا في ثيابه لا ينطق من فيه إلا بالنذر اليسير .وقد احتل المسجد حيزا لا بأس به من كتابات الرحالة فكتب عنه الرحالة عبد الغني النابلسى الدمشقي في كتابه (الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز) .
لا نملك معلومات كثيرة عن ظروف نحت المسجد الذي ضم رفات الشيخ شاهين وولده جمال الدين وولد ولده محمد سوى أنه تم في عهد داود باشا بن عبد الرحمن اكتمال الشهير بالخصي والي مصر العثماني من قبل السلطان العثماني سليمان القانوني والذي أعتقه حينما دب خلاف بينه وبين الشيخ أحمد عبد الحق السنباطي لكونه عبد خصي والعبيد لا يحكمون الأحرار وأحكامهم باطلة والغريب أن السلطان سليمان القانوني كافأ الشيخ السنباطي بجعله أول من يتولى مشيخة الأزهر في أشهر الرويات والسنباطي أيضا هو صاحب فتوى تحريم القهوة قديما !!! . موقف السنباطي مع داود يستدعي من التاريخ موقف مشابه للشيخ العز بن عبد السلام مع الأمراء المماليك زمن السلطان الأيوبي نجم الدين أيوب .
وقد أقام داود جامعا كبيرا سمي الجامع العتيق أو مسجد داود باشا بالسيدة زينب كما حفظ التاريخ اسمه من نسبة كفتة داود إليه والتي صنعت في عهده بمقادير معينة وخلطة خاصة كان يكافىء ويعاقب بسببها خدمه فبقيت إلى اليوم تحفظ اسمه وسيرته.
نعود لمسجدنا ونسأل عن سر المكان ولماذا جبل المقطم تحديدا ؟ والإجابة ربما لأنه الخلوة الذي اعتزل فيه الشيخ شاهين الناس في رحلة تعبدية أشبه برحلة النبي صلى الله عليه وسلم للتعبد في غار حراء أو لأن جبل المقطم ترسخ في عقول أهل مصر مسلميها ومسيحيها "أنه غرس أهل الجنة وفيه يدفن أمة أخي محمد "كما جاء بمقولة السيد المسيح لأمه العذراء مريم في رحلتهما المقدسة لمصر وانتقلت المكانة إلى المسلمين مما جعل العديد من الصوفيين الآخرين يدفنون به كسلطان العاشقين الشاعر الصوفي عمر بن الفارض ومن حكام مصر عمرو بن العاص الصحابي الجليل وكذلك أحمد بن طولون ومن بعده الطولونيين بالقرافة الكبرى واللافت أن الحاكمين كان لهما مسجدين كبيرين ومع ذلك آثرا أن يدفنا في هذا البقعة المباركة .
وقد تباينت الرؤى حول سبب تسميته بجبل المقطم فقيل أنه من القطم أي قطع الشجر والنبات وقيل نسبة إلى العبد الصالح المقطم بن بيصر بن مصر بن حام بن نوح وقيل نسبة إلى الكيميائي مقيطام الحكيم الذي أوكل إليه مصرايم ملك مصر استخراج الذهب والزبرجد والفيروز وغيرها من المعادن بالجبل !!.كما يحتفظ التراث المسيحي بقصة طريفة حول تحريك جبل المقطم من شرق القاهرة إلى موضعه الحالي في عهد المعز لدين الله الفاطمي!!!.
إنها مصر المحروسة وحودايتها التاريخية التي تحرك القلوب وتسحر الألباب عبر الزمان .
المراجع والمصادر :
1-كتاب مرشد الزوار إلى قبور الأبرار مرشد الزوار الى قبور الابرار : المسمى الدر المنظم فى زيارة الجبل المقطم
لموفق الدين بن عثمان الفقيه
2-كتاب هوامش المقريزي حكايات من مصر لصلاح عيسى.
3-كتاب الكواكب السيارة : فى ترتيب الزيارة فى القرافتين الكبرى والصغرى لشمس الدين محمد ابن الزيات.
0 تعليقات
إرسال تعليق