علي السوداني




حلّت‭ ‬برأسي‭ ‬البارحة‭ ‬جدتي‭ ‬البديعة‭ ‬حيهن‭ ‬صالح‭ . ‬هي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬شاعرة‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬تحفظ‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الشعبيات‭ ‬الراسخات‭ ‬بباب‭ ‬النعي‭ ‬والشجن‭ ‬اللذيذ‭ ‬والعشق‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬يشبه‭ ‬بقايا‭ ‬حناء‭ ‬بخاصرة‭ ‬كف‭ ‬،‭ ‬وأيضاً‭ ‬بعض‭ ‬الطقاطيق‭ ‬الهابطة‭ ‬من‭ ‬رازونة‭ ‬الطرفة‭ ‬والملحة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬مفردات‭ ‬صادمة‭ ‬تجعل‭ ‬مجلس‭ ‬العائلة‭ ‬يسبح‭ ‬بمستنقع‭ ‬ضحك‭ ‬عظيم‭ ‬،‭ ‬ويتحول‭ ‬أبي‭ ‬إلى‭ ‬فوهة‭ ‬بركان‭ ‬تغلي‭ ‬بطنه‭ ‬ولا‭ ‬ينفجر‭ .‬

أما‭ ‬عبود‭ ‬أبو‭ ‬لعيبي‭ ‬فلقد‭ ‬كان‭ ‬المضمد‭ ‬والمداوي‭ ‬الماهر‭ ‬الطيب‭ ‬الكريم‭ ‬بقطاع‭ ‬ستين‭ ‬بمدينة‭ ‬الثورة‭ ‬ببغداد‭ ‬العزيزة‭ . ‬كان‭ ‬زارق‭ ‬أبر‭ ‬بيد‭ ‬خفيفة‭ ‬رحيمة‭ ‬وشافي‭ ‬أمراض‭ ‬أُخر‭ . ‬أظنه‭ ‬قد‭ ‬رأى‭ ‬كل‭ ‬مؤخرات‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء‭ ‬والأولاد‭ ‬هناك‭ . ‬البارحة‭ ‬أيقظ‭ ‬ذاكرتي‭ ‬وقدرت‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬مات‭ .‬

أعلم‭ ‬أين‭ ‬أنت‭ ‬ذاهب‭ ‬يا‭ ‬أبي

قد‭ ‬تكون‭ ‬وجهتك‭ ‬المتنبي‭ ‬والسراي

ربما‭ ‬بعض‭ ‬دكاكين‭ ‬غاطسة‭ ‬بنفق‭ ‬الرصافي

أشك‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬رحلتك‭ ‬الى‭ ‬عقد‭ ‬الجام‭ ‬وسوق‭ ‬الصفارين‭ ‬والشورجة‭ ‬

ظهرك‭ ‬مكسور‭ ‬يا‭ ‬أبتي‭ ‬كأنك‭ ‬بغداد‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تمشط‭ ‬شعرها‭ ‬على‭ ‬شاطىء‭ ‬دجلة‭ .‬

في‭ ‬مكان‭ ‬دافىء‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭ ‬،‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬الرجل‭ ‬القصير‭ ‬حسن‭ ‬بسبوسة‭ ‬راسخاً‭ ‬ورائعاً‭ .‬

كنيته‭ ‬جاءت‭ ‬من‭ ‬صنف‭ ‬معجنات‭ ‬ساخنة‭ ‬حادة‭ ‬كان‭ ‬يصنعها‭ ‬ويدور‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬الأزقة‭ ‬،‭ ‬مع‭ ‬وقفات‭ ‬طويلة‭ ‬أمام‭ ‬مقهى‭ ‬جمعة‭ ‬ومقهى‭ ‬زيدان‭ ‬ومقهى‭ ‬سلمان‭ ‬،‭ ‬وصبحية‭ ‬رزق‭ ‬بباب‭ ‬مدرسة‭ ‬الأطلال‭ .‬

تطور‭ ‬الأمر‭ ‬قليلاً‭ ‬فصارت‭ ‬البسبوسة‭ ‬أو‭ ‬السمبوسة‭ ‬حبات‭ ‬فلافل‭ ‬ساخنة‭ ‬مفروكة‭ ‬بصمونة‭ ‬،‭ ‬وغارقة‭ ‬بسائل‭ ‬العمبة‭ ‬الكثيف‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يلطخ‭ ‬قميصك‭ ‬الوحيد‭ ‬بعد‭ ‬أول‭ ‬عضة‭ ‬تنشب‭ ‬في‭ ‬مفتتح‭ ‬اللفة‭ . ‬تعب‭ ‬حسن‭ ‬تالياً‭ ‬من‭ ‬ثقل‭ ‬العربانة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يدفعها‭ ‬بما‭ ‬حملت‭ ‬بطنها‭ ‬وشال‭ ‬ظهرها‭ ‬،‭ ‬فقفز‭ ‬إلى‭ ‬شارع‭ ‬الرضوي‭ ‬واستأجر‭ ‬دكاناً‭ ‬صغيراً‭ ‬وحافظ‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬الطبخة‭ .‬

عندما‭ ‬هجرت‭ ‬مدينة‭ ‬الثورة‭ ‬وعبرت‭ ‬النهر‭ ‬صوب‭ ‬كرخ‭ ‬المدينة‭ ‬،‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬من‭ ‬حسن‭ ‬سوى‭ ‬طعم‭ ‬أكلته‭ ‬العظيمة‭ ‬،‭ ‬وقيل‭ ‬أنه‭ ‬صار‭ ‬غنياً‭ ‬واشترى‭ ‬بيتاً‭ .‬

إن‭ ‬عدت‭ ‬الى‭ ‬بغداد‭ ‬،‭ ‬سأطير‭ ‬الى‭ ‬دكانه‭ ‬الطيب‭ ‬وأُعانقه‭ ‬بقوة‭ ‬ألف‭ ‬حصان‭ ‬وأخبره‭ ‬بأنني‭ ‬إبن‭ ‬الحاج‭ ‬كاظم‭ ‬فيبكي‭ ‬وأبكي‭ ‬،‭ ‬وعلى‭ ‬وقع‭ ‬زخ‭ ‬الدموع‭ ‬السواخن‭ ‬،‭ ‬سيتنزل‭ ‬على‭ ‬مائدتي‭ ‬الجديدة‭ ‬لفة‭ ‬فلافل‭ ‬عملاقة‭ ‬وماعون‭ ‬سمبوسة‭ ‬وطاسة‭ ‬لبن‭ ‬بارد‭ ‬وثقيل‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬العوافي‭ .‬

حسن‭ ‬الآن‭ ‬بباب‭ ‬الثمانين‭ . ‬بدأ‭ ‬القلق‭ ‬يملأ‭ ‬رأسي‭ ‬الثقيل‭ ‬،‭ ‬مع‭ ‬ألم‭ ‬بسيط‭ ‬بصدري‭ ‬يشبه‭ ‬صفعة‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬معلم‭ ‬درس‭ ‬الرياضيات‭ ‬الحقيرة‭ .‬