بقلم الكاتب والباحث السياسي
الدكتور أنمار نزار الدروبي


قوانين الأشياء لا تسمح أن تستقر الشواذ والتناقضات في كيان لا ينسجم معها، ولذلك تحدث الحركة بفعل التنافر والتضاد في عملية خلق استقرار أو انسجام فيما نسميه الواقع. الحرب رغم بشاعتها تعتبر من الوسائل التي تنتج الحل عندما تتعقد الإشكالات وتعجز العقول عن ايجاد صيغة لمعادلة مقبولة من خلال السياسة، وبما أن أسوء الكوارث تنتجها أخطاء البشر سواء في صناعتها بجهالة مدمرة أو بالغباء في التمادي وإهمال معالجة الأسباب التي تؤدي اليها. إذا أخذنا على سبيل المثال حجم الخراب والانهيار الذي كاد أن يلحق بمصر آبان حكم جماعة الإخوان المسلمين، وما أنتجته أخطاء السياسة الإخوانية.
 الحقيقة التي لا غبار عليها هي أن تركيبة جماعة الإخوان المسلمين وتحديدا أثناء حكم مصر وقاعدة استناد بناءها للنظام السياسي لا تتقبل التغيير بوجوب استحقاق التطور الإنساني، فهو نظام أخطبوطي كهنوتي يجسّد عقول لا تفقه ولا تؤمن بمنطق الحياة البشرية، هذا النظام الإخواني كان يهرب دائما باتجاه خيالاته فلا يبصر ما تشرق عليه الشمس جليّا في الواقع.
بعض ألوان السحر لا يمكن تركيب طلاسمه إلا بإحداث صدمة أو شيء من الخوف، ولكي يتم تمرير السحر فلابد من أكذوبة يتغلف فيها أو يختبئ خلف تجسيدها على أرض الواقع. هذه كانت استراتيجية جماعة الإخوان المسلمين عند وصولهم للحكم في مصر، استراتيجية تصدير الأوهام للشعب المصري ومحاولة التحكم في أذهان ومشاعر المصريين، لكن المصريون شعب العجب، كان الجدار الفاصل بين ما فعله الإخوان وبين عقول المصريين أكثر صلابة من الإسمنت. أما الاستبداد فهو رؤية إخوانية تجاوزت حدود الممارسة الفردية ليعبر عن طبيعته في عقيدة مكتب إرشاد الجماعة ومجلس شورى الجماعة، تلك العقيدة التي تشتمل على جملة أفكار شاذة عن الفطرة الإنسانية ومنطق الأشياء، هذا ما حدث مع النازية وما تكرسه الحركة الصهيونية مع نظرية ولاية الفقيه الخميني. فالخطر في هذه الحالة لا يقف عند حدود الفرد الدكتاتور، مثل المرشد العام، أو نائب المرشد أو أي عنوان آخر من قيادات الجماعة الذي تفرض حالته ظروف معينة تنتهي مع هلاكه أو سقوطه بسبب تصرفاته الشاذة واستهتاره بالقيم الانسانية. ان مثل هذا الخطر الإخواني حاول خلال سنة من حكم الجماعة لمصر أن يستشري كالوباء بين الشعب، لاسيما أنه نشط في البيئة الضيقة والمناسبة لانتشاره خاصة بين الاوساط الجاهلة بالحياة والتي لا تُطيق التعاطي مع متطلبات التقدم الحضاري والمدمنة على تحجرها الكهنوتي الوثني.
 بالمقابل كانت تطلعات الشعب المصري في زمن حكم الإخوان تتناقض جوهريّا مع كل توجهات هذا النظام المتخلف، وعليه عندما أذن وقت التصادم بين إرادة الشعب وطموحاته وبين جهل الطغمة الإخوانية المستبدة التي صادرت حريته وسلبت حقوقه وأقحمته في مسارات أنفاق مظلمة كادت ستنتهي إلى كوارث، شاهدنا ثورة 30 يونيو 2013 وخروج الملايين ضد جماعة الإخوان المسلمين وكيف كانت أقدام المصريين تدوس على أوثان النظام الإخواني وتبصق على معتقداته. ومن ثم تدخل الجيش المصري استجابة لنداء المصريين، هذا الجيش العظيم الذي درس جميع فصول التاريخ في تشكيلاته وتعلم فنون قتال الشرق والغرب خلال معاركه المتعاقبة منذ خمسة آلاف سنة، هو الجيش المتمرّن على التعامل مع كل ألوان الشغب والفتن والاضطرابات بفطرته الوطنيّة، لاسيما أن في حضارة وادي النيل قد تشابكت عروق البشريّة وأبدع الإنسان لينسج أول بساط للثقافة والمعرفة والنظام في العالم. وعلى ثنايا هذا البساط التاريخي كتبت شواهد العمران وفلسفة العلاقات الاجتماعية والسياسية وتم تأسيس الحكومات والجيوش العسكرية وأنظمة الإدارة والزراعة وسك العملة وترويض الخيول واستعمال العربة وصنع الاسلحة، ومن هذا المعين الإنساني كانت تستقي شعوب الأرض لتبني وجودها وتشكّل هويتها، لكي تحاكي مجد الفراعنة. ومن تلك البداية يمكننا أن نتكلم عن الجيش المصري، جيش النيل المتأصّل بعقيدة إيمان التمسّك بالأرض وقدسيّة هويّة الحضارة وحكمة الإنسان الكادح في صراعه من أجل الكرامة. لا يحق لأي جيش في العالم أن يتطاول على قدم تأسيس جيش مصر ولا في تنظيمه أو عقيدته العسكريّة، فهو الخالد المعبّر عن ضمير الإنسان المصري ووجدانه.
حيال ما جرى في مصر أيام حكم جماعة الإخوان المسلمين لا يمكننا أن نعتبر صيرورة الأحداث لأكثر من احتمالين وكلاهما يدين النظام الإخواني ويستهين به. احتمال المؤامرة، أو احتمال تفاقم أخطاء النظام وتقصيره بحق الشعب المصري مما تسبب الثورة عليه. بالنسبة، للمؤامرة فإن ما كشفته تسجيلات الأجهزة السيادية والأمنية المصرية في محاكمات قيادات الجماعة ومدى ارتباط الإخوان مع أجهزة مخابرات بعض الدول وخاصة اتصالات عصام الحداد القيادي البارز في الجماعة والذي كان مساعد الرئيس محمد مرسي للشؤون الخارجية، وهذا دليل على هشاشة نظام الإخوان وضعفه بحيث جرى اختراقه. وبالنسبة للاحتمال الثاني وهو الحقيقة التي حاول الإخوان أن يخفوها طيلة فترة حكمهم منذ سرقة ثورة 25 يناير 2011، من خلال تصدير خرافاتهم إلى الشعب المصري وخلق الفتن الطائفية باستثمار الدين طائفيا والمتاجرة بقضية الإسلام والشريعة، إلى مستوى لم يستوعب عقول كل هذا الحجم الكبير من الجماهير التي ثارت عليه واحتقرت توجهاته وإملاءاته النظرية المتعفنة.
وتأسيسا لما تقدم، فإن الشعب المصري قد أدرك الكلفة التاريخيّة لهذا النظام الإجرامي وخرج في 30 يونيو عام 2013 ليعلن براءته من نظام الرئيس الراحل محمد مرسي. في حينها كان الإخوان يعلمون جيدا أن نظامهم قد انتهى، وهو في مرحلة الإنعاش السريريّة، فلم يعد قلبه المريض باستطاعته أن يضخ دماء لأذرعه. وعليه فقد شلت جميع الأذرع الإخوانية المسرطنة بالفساد والإجرام. وبعد أن لقى حتفه ترك له أيتاما في سيناء والسودان وقطر وتركيا وعدد من الدول الأخرى. هؤلاء الأيتام تم توظيفهم من قبل دوائر الغرب التي تهتم بحقوق الأيتام وتستخدمهم في إنجاز مهمات تليق بمؤهلاتهم التي ورثوها عن حسن البنا وسيد قطب وعبد الرحمن السندي وغيرهم.
إن مسلسل الاختيار 3 يعتبر موروث عظيم لكل للأجيال العربية القادمة وليس للمصريين فقط، والتاريخ سيسجل كيف استطاع المصريون من قطع الطريق على جماعة الإخوان المسلمين وعدم السماح لهذه الطبقة الكهنوتية المتطفلة على استغفال عقول البشر، وللعلم تعتبر هذه الطبقة من ألد أعداء الأنبياء ولا تتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم حفاظا على مصالحها ومكتسباتها من الدين، وهم كذلك من أشد الداعمين للطغيان والاستبداد.
ربما لم يفطن الكثير أن ثورة 30 يونيو أحدثت تغيير في واقع الإنسان المصري، كما أحدثوا الأنبياء الثوّار تغيّرا في الواقع الإنساني إبتداءا من السلطان العظيم آدم مرورا بنوح الذي صنع سفينة البقاء الى إبراهيم الذي هشّم أصنام النمرود ثمّ موسى في عصاه التي ابتلعت أفاعي الطغيان وشقت البحر الأحمر ومرورا بمملكة داوود وسليمان حتى المسيح عيسى بن مريم الذي محق العجل الذي عكفت عليه اليهود ومهّد الطريق لثورة النبيّ الأمي المهدي محمد بن عبد الله في جزيرة العرب. بنظرة مبسطة سنرى كل الأنبياء كانوا يسخطون على واقعهم ويدعون الى تغيره وجلهم كان عالما مصلحا، والبعض منهم كانوا زعماء لحركات إصلاحية وثوريّة وتشكلت أحزابا من خلال دعوتهم وخاضوا حروبا وأسسوا دول وأنظمة، كان موسى نبيّا وقائدا لبني إسرائيل وكان داوود نبيّ محارب ورجل دولة، وكذلك سليمان في مملكته وإنجازاته العمرانية وحكمته السياسية، والنبيّ العربي محمد صلى الله عليه وسلم الذي قلب كيان جزيرة العرب وأسس لنظام دولة عظمى امتدت حدودها من جنوب فرنسا غربا الى الصين شرقا.