د.محمد فتحي عبد العال
 كاتب وباحث وروائي مصري


إنها منظومة الصحة في مصر وفي عدد من البلدان العربية ..
منظومة مفترض أن تعتني بصحة المواطنين وتخفف من وطأة أمراضهم فإذا هي تئن من أمراضها إن لم تكن على شفا جرف هار من السقوط والانهيار !!
وأعظم أمراض المنظومة الصحية المتصلة بغياب الضمير والوازع الأخلاقي .
لقد شاء الله أن يكون القاضي والطبيب مؤتمنين على الإنسان أعظم مخلوقات الله فالقاضي منحه الله شريعة ومنهاجا يحدد بها مصير إنسان موتا وحياة حرية وسجنا وكذلك الحال بالنسبة للطبيب الذي وهبه الله العلم الذي يعالج به مرضاه ويخفف من آلامهم ويحدد الطرق العلاجية المناسبة لذلك بوازع من ضمير ..
لقد اتفقت الجمعيات والهيئات الصحية حول العالم إلى وضع بروتوكولات علاجية بمعايير محددة تتباين في نقاط وتتفق في أخرى ويتم تحديثها بشكل مستمر لضمان فاعلية الخطة العلاجية  ولمحاسبة الطبيب إن حاد عن خطها المرسوم ولكن في البلاد النامية ودول العالم الثالث لا رقيب على الطبيب سوى ضميره فلا محاسبة ولا رقابة والكل يعالج باجتهاده الشخصي وقناعاته وإن ولى زمانها ..والضحية المريض أولا وأخيرا  والقبور من شيمها الكتمان  تحمل ضحايا الأخطاء الطبية في صمت مطبق وتحت جنح الظلام !!.
الممارسات اليومية للسادة الأطباء تحتاج لمراجعة شاملة فالعيادات الخاصة ضرب من الفوضى العلاجية وينبغي أن تكون جزء من كيان مؤسسي هو المستشفيات والمستوصفات وتحت مظلة تأمين صحي شامل يكفل للمرضى على اختلاف درجاتهم فرص متساوية من العلاج وهو حق مشروع وواجب على الدول لا تفضلا منها .
إلغاء تراخيص العيادات الخاصة ليس فقط وسيلة للمراقبة وضبط الأداء الطبي بل أيضا وسيلة للحيلولة دون ظاهرة الرشوة الطبية التي تقدم في شكل أموال سائلة أو قسائم شرائية أو هدايا عينية أو رحلات خارجية تقدم من شركات الأدوية المختلفة للأطباء مقابل كتابة أصناف دوائية بعينها يثقل بها الطبيب كاهل المريض المسكين وقد يحتاجها فعليا في علاجه ويوجد منها بدائل أقل ثمنا  وقد تكون زائدة عن حاجته لتحقيق المكاسب لشركات الأدوية لذا فالتحول من العيادات الخاصة للمستشفيات والمراكز والمستوصفات يضمن تقيد الطبيب بالاسم العلمي عند كتابة الدواء وذلك في حالة تبني وزارة الصحة لهذا المسعى المهم وتثقيف المريض حول أن لكل مادة فعالة أسماء تجارية عدة جميعها على نفس الكفاءة العلاجية وعليه اختيار ما يناسب قدرته المادية كما أنه يضمن منع زيارة مندوبين الدعاية الطبية للأطباء وقصر زياراتهم على المستودعات الدوائية الملحقة بالمستشفيات والمراكز الصحية والمستوصفات لضمان الشفافية ..
أما الصورة الحالية فلا علاج لها سوى البتر الكامل اتفاقيات بين الأطباء في عياداتهم الخاصة مع بعض المعامل لإجراء التحاليل الخاصة بالمرضى ومع بعض الصيدليات لصرف علاجات معينة قد لا تتوافر سوى بهذه الصيدليات نظير نسبة أو مبلغ مادي محدد مسبقا  يجنيه الطبيب مقابل كل مريض يذهب للمعمل أوالصيدلية موضع الاتفاق والطريف هو تعمد بعض الأطباء كتابة الروشتة الطبية بخط أشبه بالشفرة لا يفهمها إلا الصيدلي بالصيدلية الموجه إليها المريض فقط ..
حالة مزرية لا تنم سوى على انهيار منظومة الأخلاق ..بالطبع المستشفيات والمراكز الصحية والمستوصفات ليست واحات ظليلة للأخلاق والقيم  فاللامبالاة والهدر والمعاملة السيئة والروتين البغيض لصيق بها وبمناسبة الروتين لازلت اتذكر رجلا مقطوع الساقين كان ينزل ويطلع الدرج زحفا على بطنه من أجل إنهاء معاملاته داخل مؤسسة صحية !!!!
ويا ويلي على مريض الأورام الذي بينه وبين الموت أيام عافاهم الله فعليه أن أن يقضي هذه الأيام بين اللجان الطبية للحصول على الموافقات الروتينية على جلساته ولتذليلها لابد من دفع الثمن والثمن هو مراجعة أطباء الأورام في هذه اللجان في عياداتهم الخاصة وإلى الله المشتكى ناهيكم عن أطباء الجراحة والنساء والولادة حيث يتفقون مع المرضى على مبالغ خارج مظلة التأمين  تحت عنوان حضرة الدكتور الكبير ذائع الصيت الذي لا يلائمه ملاليم التأمين الصحي!! طبعا هذا الحال في المستشفيات العامة أما المستشفيات الخاصة فجم همهم هو تحصيل مبالغ طائلة من المرضى نظير خدمات متواضعة وأحيانا وهمية  وقد يدخل المريض باشتباه جلطة ليصاب داخل العناية المركزة لديهم بعد اليوم التاسع  بكوفيد 19 كما حدث مع والدة صديق لي !!!..
 ولكن على كل حال يمكن في ضوء كون المستشفى أو المستوصف أو المركز الصحي كيان تنظيمي البناء عليه وضبطه وجعله نقطة الانطلاق نحو التحكم في سلوك الاطقم الطبية الأخلاقي بداخله إن لم يكن الآن فمستقبلا وذلك يتحقق مع الرقابة من جانب الوزارات المعنية وتطبيق الثواب على الملتزم والعقاب على الجانح والخارق لآداب مهنته وأخلاقياتها .
من الضيم أن نحمل الطبيب وحده مسألة انهيار بنيان الأخلاق داخل القطاع الصحي فالتمريض أيضا شريك. لك أن تتخيل يا عزيزي المئات من شركات التمريض في ربوع مصر تقدم خدمات منزلية بأسعار خيالية مستثمرين في ذلك ظروف جائحة كوفيد 19 وعدم توافرة أسرة بالعناية المركزة بالمستشفيات ولجوء بعض الأسر للعناية التمريضية لذويهم كبديل عن الرعاية الطبية المتكاملة بالمستشفيات وما باليد حيلة !!!
لكن السؤال إذا حدث مكروه للمريض أو خطأ تمريضي في المعالجة على من تقع المسؤولية ؟! الإجابة يا سادة تحملها قبور الكثير من الموتى .
حينما مرضت والدتي مرضها الأخير كانت تحتاج لرعاية تمريضية بشكل مستمر فكانت الممرضة تفاوضني لأعلى سعر مقابل البقاء إلى جانبها ساعتين باليوم فالعشر دقائق تحصل فيها على 250 جنيه ورعاية مريض كوفيد 19 ساعة باليوم نظير ألف جنيه وهكذا ..
دقائق من المفاوضات كأني أفاوض راقصة وليست ملاك الرحمة كما كنا نراها في الأفلام العربية الأبيض والأسود قديما.
ونأتي إلى الصيدلي صاحب المهنة البائسة والتعيسة فنجد محاربة بين الصيادلة على الخصومات التى تعطى للمرضى على الدواء وكأنها الجريمة الكبرى ..تصور محاربة الشكل الأخلاقي الوحيد في هذه المهنة حتى وإن جاء في ثياب الدعاية لكن طالما يخدم المريض فلما لا ؟!!
اقتصاديات الصيدليات وانخفاض دخلها أحد أهم أسباب العبث في الحماية الدوائية للمريض فتجد صيدليات تحجب الدواء عن المريض إن اشتمت قلة توافره في باقي الصيدليات طمعا في بيعه بسعر أعلى أو ضمن وصفة طبية كبيرة أو أنه على قائمة الأدوية المرشحة لزيادة سعره فتغفله طمعا في زيادة الربح وحياة المريض المعلقة بالدواء تأتي في المراتب الأخيرة ..
نأتي إلى ما يمكن تسميته جائحة الفوضى في مصر وهو مجال العلاج الطبيعي وممارسته للطب دون مسوغ علمي فعيادات ومراكز العلاج الطبيعي والتغذية والتخسيس التي يديرها أخصائيو العلاج الطبيعي ينبغي إغلاقها فورا والتوقف عن هذا العبث إن أردنا لمنظومة الصحة في مصر وغيرها من بلدان العالم العربي فلاحا فالاتجار في الأدوية المهربة ومجهولة المصدر وانتحال صفة الأطباء في التشخيص وكتابة العلاج هو كارثة بكل المقاييس داخل هذه العيادات والمراكز .
العودة إلى مفهوم المستشفى والمركز والمستوصف كبنية صحية متكاملة من التخصصات وتحت مظلة تأمين صحي شامل لا يفرق بين أحد والتدريب المستمر لأعضاء القطاع الصحي والتثقيف الصحي للمرضى وذويهم كل هذه معاول للبناء إن أردنا مواطنا متعافى مشارك في بناء بلاده وحضارتها وتطورها ..