شتاء بعقوبة في الماضي كان يختلف عما هو عليه الان . إذ كان البرد قارساً في الصباحات الجميلة والمطر يتساقط في ايامٍ كثيرة ليغسل الاشجار والشوارع فنفرح لذلك رغم ان كثيرا منها لم تكن معبدة ونصل الى قمة السعادة عندما نرى قوس قزح بألوانه الجميلة الزاهية التي تنشر الفرحة في النفوس . كنت اخرج من المنزل بعد صراخ وصياح للبحث عن الكتب والاوراق والصديقات اللواتي يحضرنّ الى بيتنا ليصطحبنني الى المدرسة ونخرج سوية ونحن سعداء مع دعاء الوالدة لنا بالسلامة وحالما نفتح الباب يخيم الصمت في دارنا .
كنا بمنتهى الاحترام والاجلال نقرأ سورة الفاتحة على روح الشهيد الملا حسين الذي قتله الجنود الإنكليز وكان قبره في الشارع امام جامع الشابندر حيث دفن وبكل الخشوع الذي يُرافق صمت بعقوبة وسكونها ثم نلتفت الى قبر الست (مومنية ) التي نحييها وندعوا الله ان يلهمنا ببركتها الصبر والسلوان وراحة البال لقلوبنا وهذه طقوس تعلمناها من العائلة . نواصل السير ونحن نرتدي (الچزمة) لتقينا من الاوحال . وكانت الشمس مابين شروق وغروب فهي احيانا تكون معطاءً واحيانا اخرى تبخل علينا بالدفء . ونستمر بالمواظبة على الدروس بما يرضي اهلنا ونفوسنا وعند العودة اسير في الطريق الذي اعتدنا عليه وكنا نشاهد الشيوخ والعجائز وبعض العائلات يجلسون امام بيوتهم طلباً لدفء الشمس . كنا نرى شاباً ضعيف البنية قصير القامة شواربه رقيقة حديثة تشبه شوارب سمكة ابو ( الزمبير ) وكانت ملابسه رثة لاتقيه من برد الشتاء ولفقر حاله كان يلبس في قدميه حذاءً يسمى (يمني ) كبير الحجم ولايتناسب مع عمره لان كبار السن كانوا يرتدونه عادة وكان فيه برقة من لون احمر ولايزال فيه بقايا من حذاء . كان يوما ما جديداً . كنا نطلق عليه لقب (المگرفع ) لغرابة جسمة فهو قصير القامة منحني الى الامام وكان يعمل في "سكلة" ويقود حماراً هزيلاً عليه سابل من الخوص يتدلى من جانبيه وبداخله (گواني ) فيها جص او رمل او تراب او حصى حسب الطلب . وكان يجوب الشوارع ليوصل مواد البناء الى اصحابها .
صادف يوما ان شاهدته يسير نحونا وقد استغربت الامر . ولكن تبين انه كان يجلب المواد الى والدي في محلة (العنافصة) من اجل ان تكون جاهزة للعمال في اليوم التالي . عندما رآه ابي تألم لحاله وملابسه الرثه وفقر حاله ووضعه الاجتماعي الصعب فاخبرني ان هذا المسكين بعد ان ينتهي من عمله يذهب الى جدته في بيت استأجرت فيه غرفة . كانت تسكن عوائل كثيرة كل منها في غرفة تسمى (النزولة ) يدفعون مقابلها ايجاراً بسيطا وهو يعمل ليساعدها وبعد انتهاء عمله يخرج عصراً ويجوب شوارع المدينة ليتفرج على الباعة المتجولين والانواع الكثيرة من الطعام والحلويات ومن هؤلاء حسين ابو الشلغم الذي كان ينادي بصوتٍ عالٍ ومتواصلٍ ويقول : ( شلغم مايع وحلو . درمان الصدر ) الكلمة اعتقد انها فارسية او كردية وتعني بها الشفاء وعندما يقترب "المگرفع" منه ينظر اليه نظرة استجداءً ليستلم اناءً صغيراً يعطيه له مجانا لانه يعرف ان النقود التي يكسبها لاتكاد تكفيه وانه بحاجة لها ليسلمها الى جدته المسكينة لدفع ايجار الغرفة ومصرف لطعامهم وكان "المگرفع" يقوم برش الملح على الشلغم وانا اضحك لهذا الفعل واقول له ساخرة :
الشلغم حلو وفيه دبس لماذا تضع عليه الملح ؟
كان لاينبس ببنت شفة بل يكتفي بهز يده استهزاءً في بعض الاحيان . كان يعيش بين ظهرانينا وكبر شيئا فشيئا ونحن تعودنا على رؤيته يوميا ولكن الزمن اصابه بنكسة فتوفيت جدته واصبح وحيداً ولم نعد نراه الا قليلا وبعد فترة اختفى تماما من المدينة . كانت الايام تمر والشتاء جاء بعده ربيع جميل رغم انه كان قاسياً على فقراء المدينة فقد اهلك الحرث والنسل في بيوت تهدمت وسقطت على رؤوس ساكنيها لانها مبنية من الطين ومادة هشه تسمى (اللبن ) وقد صادف في تلك الفترة فيضان اغرق بعضها وقطعت الطرق والمطر بدأ يزداد هطولا يجلب الرعب الى القلوب ونحن على هذا الحال بدأت بقرتنا العزيزة علينا تشعر بالمخاض وهي في الحضيرة وقد تعسرت ولادتها رغم المحاولات الكثيرة لانقاذها وبإصرار وصراخ مني ذهبت مع خالي لجلب الطبيب البيطري وهو السيد عبد البيروتي . كانت ليلة ليلاء حيث المطر والرياح والطرق طينية وحينما وصلنا الى البقرة كان الماء يهطل من ثقوب السقف وقام الدكتور بتوليدها وهي تتألم وتجأر وبعد عناء والمطر يزداد شدة سمعنا صوت الدكتور يقول : الحمد لله ولدت .
فرحت كثيراً بالصغيرة وفي صباح اليوم التالي قام الراعي بحلب الأم وعمل (الدلوه ) وهي الصمغة التي تخرج من البقرة لمدة ثلاثة ايام بعد ولادتها وكانت لذيذة جداً وكنا نقوم بتوزيعها على الجيران وانتهت ايام ذلك الشتاء من تلك السنة وهلّت بشائر الربيع اذ تحسن الجو وبدأت الاشجار والورود تزهر من جديد . أما الدوام في المدارس فكان منتظماً ونحن في التزام لامثيل له ولكن زخات المطر الخفيفة كانت تعطل مسيرتنا احيانا لان الذهاب اليها صعب جداً فنحن نسير على طرق طينية . وشاء القدر ان تأتي صديقتي سهام وسلامة لنركب العربة التي تجرها الاحصنة الى المدرسة ويقوم الوالد بتوصية العربنجي بعدم السياقة بسرعة ويدفع له الاجر . كنا نشعر بالفرح والفخر وعند الوصول نحس كأننا ملكات دون تيجان .
استمرت ايام الدراسة على هذا المنوال وصداقتنا تتعزز "والمگرفع" لم نعد نراه ثانية في شوارع بعقوبة وقد اصبح منسياً . وفي احد الايام ونحن نقف مع جميع الطلاب لتحية العلم اقترحت المديرة علينا القيام بسفرة الى منطقة الصدور وكان علينا اعلام الاهالي بالموعد وكان فرحي كبيراً وعند وصولي الى البيت كنت اصرخ واقول سنذهب سفرة الى الصدور وهكذا فاتحتهم ولكنهم وقفوا واجمين لايردون عليّ وهذا يدل على رفضهم القاطع لانني كنت طفلة كثيرة الحركة والاصرار على مواقفي والسفرة لايمكن ان تكون الا بموافقتهم وبعد توسلات وتعهدات حصلت الموافقة وهنا كانت الفرحة لنبدأ التحضيرات للسفرة في الموعد المحدد . قامت الوالدة قبل يوم باعداد البيض المسلوق والكرفس والرشاد والخبز والكباب والبطاطا المسلوقة والمقشرة (والمدگوگة ) التي كانت تصنع بواسطة الجاون والميجنة فيضعونها بقدر معدني كي لاتتلف ويوضع الطعام المعد للسفرة في "علاگة" تغطى بقطعة من القماش اللائقة التي نستخدمها كالمائدة . اثناء الاستعداد للسفرة جاءني الجيران لتوديعي والطلب مني بان اجلب لهم الحصى المثقوبة من وسطها لان لها سرا مفعوله قويا جدا لاعتقادهم بان الملائكة هي من تقوم بثقبها ولذلك تتهافت عليها النسوة فيضعنها تحت الوسادة فاذا رأت المرأة حلما جميلا تمسكت بالحصى واحتفظت بها ثم تقوم بادخال خيط اوقطعة قماش رفيعة وتعلقها في رقبتها او تضعها في دبوس على الجهة اليمنى من صدرها للبركة .
كم كنا سعداء وكانت تلك احلى الايام في حياتنا وفي صباح اليوم التالي ذهبنا الى المدرسة مسرعين فرحين عندما شاهدنا الحافلة تقف امام الباب . ركضنا بهدوء وباشراف المعلمات وعندما اكتمل العدد وانطلق الباص مع تصفيقنا والاغاني ونحن نراقب المعلمات وهنَّ في احلى زي . كان من ضمنهنَّ الست اميرة يحيى العاصي والست عفيفة سامي والست غازية ام لقاء زوجة المرحوم عطا الصفار واثنان من المطبقات هنَّ الست فوزية والست مديحة سلمان الخزرجي . وعند الوصول بين اناشيد وفرح وغناء نزلنا من السيارة وقد ادهشني منظر الفضاء الواسع والافق الجميل ونهر ديالى بمائه الصافي الرقراق الذي كانت تحوم حوله الطيور وجلب انتباهي جبل عالي واثار استغرابي فوقه بناءً لم ار مثله من قبل فهو ليس بكنيسة ولا جامع وكان يصعب على طفلة الوصول اليه . سألت المعلمة ( ماهذا ؟ ) قالت هذا قائد انكليزي قتل بعد معركة حامية ودفن هنا فرفعت راسي عاليا وكانني ارى مرتفعات (وذرنج ) وبايعاز من المديرة قمنا بفرش البسط والحصران وعيوننا تنظر الى جرف النهر وبين مد وجزر تظهر الحصى التي تنعكس عليها اشعة الشمس فتلمع ولمعانها يأخذ الألباب خاصة اني لاول مرة اسافر في جولة سياحية مع صديقاتي وبدا كل منا يخرج ماجلبه معه وكان استغرابي حين رأيت المسجل ابو الشريط لاول مرة تنطلق منه الاغاني لاشهر المطربين منهم فريد الاطرش . كانت معنا امرأة جميلة جدا اسمها الست نجلة زوجة الاستاذ عاصم سامي محمد اغا وهي التي احضرته معها . كان الجو ربيعيا ولهذا استطعنا ان نلعب ونركض ونفرح حتى موعد الغداء وجلسنا كل ثلاث بنات على حدة واشتركنا جميعا في تناول الطعام .
كنت حينها في الصف الخامس الابتدائي ولم ارَ من قبل صيادي الاسماك ومنظر الشباك وهي منصوبة وكنا نراقب المنطقة بإمعان وهنا اقترحت على ثلاثة من صديقاتي البحث عن الحصى الملونة المثقوبة وبغفلة من المعلمات وضعناها في قدر بعد ان افرغناه مما تبقى من الطعام الزائد . ونحن نبحث رأيت تلة صغيرة عليها جندي مطأطئ الرأس ينظر الينا مابين لحظة واخرى وهو بعيدا عن الثكنة العسكرية فتمعنا به وكان وحيدا يرسم بعصا على الرمال رسومات غير معروفة (شخابيط) دققت النظر اليه كثيرا لاتذكر ملامحه التي لم انساها فتقدم نحونا قليلا . لكن المديرة طلبت منا العودة الى السيارة . امعننا النظر اليه بدقه اكثر فقد كان شيئا لايصدق ؟
"المگرفع" اصبح جندياً ...
0 تعليقات
إرسال تعليق