سعد الاوسي
ظل جهاز المخابرات العراقي درع الدولة المتين وحارسها الامين والعين الرقيبة الدقيقة على امنها وامانها لسنوات طويلة، منهجه المهنية المحضة وهويته الوطنية الخالصة المخلصة على الرغم من اليد الدكتاتورية الثقيلة التي كانت ترسم له احيانا مساراتٍ خاصةً بعيدةً عن اسس عمله وواجباته الحقيقية.
وكان لي شرف انني كنت احد الذين اسهموا في اعادة بناء هذا الجهاز بعد تفككه وهيكلته اثر الاجتياح الامريكي واسقاط النظام في نيسان 2003، حيث عملت مستشارا لرئيس الجهاز الفريق الاول الطيار محمد عبدالله الشهواني، الرجل المهني الكفوء... طاهر اليد والذمة الذي تعلمت منه دروسا كثيرة في العمل والحياة وما ازال اشعر انني مدين له حتى الان.
وكان من جملة مآثر الفريق الاول الشهواني في عفّة النفس والترفع عن صغائر شهوة المال وحب المنصب ،
موقفٌ ماثلٌ في ذاكرتي كوهج باذخٍ من زمن الفروسية والرجولة التي تكاد تنقرض في الزمن المسخ الذي نعيشه بيأس وخيبة.
يومها كنا في وفد من المخابرات رفيع المستوى الى احدى الدول ، برئاسة الفريق الاول الشهواني رئيس الجهاز، وفي الاجتماع الاخير قدّم له رئيس مخابرات تلك الدولة مقترحاً بدعم جهاز المخابرات العراقي مادياً، فتغيرت ملامح الشهواني و بانت على وجهه ملامح غضب شديدة ربما لا تليق بدبلوماسية اللقاء، ثم التفت اليّ قائلاً : گوللهم اذا همه يريدون فلوس ننطيهم، اني رئيس مخابرات العراق... شلون يعرضون عليّ هالعرض ؟!
ارتبك المضيفون وحاولوا تدارك الامر بسرعة واعتذروا عن سوء الفهم وان الذي حصل خطأ غير مقصود !!!!.
يومها رأيت في وجه وتصرف الشهواني علم العراق بكل زهوه وهيبة الدولة بكامل سموّها والتي يجب ان تبقى حرماً طاهراً لا يمس وخط نار لايجوز العبور فوقه او تجاوزه مهما كان الثمن.
تذكرت هذا الموقف اليوم وانا ارى ما اصبح عليه حال الجهاز من تردٍّ وسوءٍ وفساد وفضائح وكشف مهين لسريته التي هي ركن عمله الاساس حيث لا يجوز العمل الا في ظل ستارها الحديدي المتين،
تذكرت هذا الموقف وسواه كثير وانا ارى مقابلات وحوارات تلفزيونية عديدة هذه الايام على فضائيات تلفزيونية ومنشورات على مواقع التواصل المختلفة، يناقش فيها مقدمو برامج ومدونون وصحفيون ومحللون اسماء المدراء العامين ورؤساء الاقسام في مديريات الجهاز المختلفة وعناوينها في العلن وكأنهم يناقشون سعر الطماطة والخيار والفجل في علاوي الخضروات....!!!.
المخابرات .....هذا الجهاز المهم الخطير الذي كان أحد أهم رموز الدولة وسلطتها وسطوتها أصبح العوبة من الاعيب الصبيان و مضغة حديث للغلمان والجهلة والاغبياء التافهين.
تذكرت سهر الليالي الطوال والسير في مجاهل الموت ونحن نعمل على اعادة بنائه عام 2004 و 2005 و 2006 يوم كانت منية الواحد منا اقرب اليه من شهيقه وزفيره.
تذكرت عشرات بل ربما ملايين الدولارات التي صرفت على اعداد كوادره ومنتسبيه و اعادة تأسيس مديرياته من جديد في دورات مهمة متقدمة داخل وخارج العراق.
تذكرت المهام الكبيرة التي تصدى لها الجهاز وهو في اول اشهر ولادته الجديدة (على قدر ما سمحت به الادارة السياسية وقتذاك)، عندما كان العراق ملعبا للجواسيس والعملاء.
تذكرت ذلك وانا ارى اكبر المناصب في الجهاز (مديرية مكافحة التجسس) يتسنمها مفوض شرطة سابق فاسد ويترك له المدى مفتوحا بكامل الصلاحيات ليعيث في البلد سرقةً وعمولات وصفقات وعمليات ابتزاز وادخال عملاء وتهريب مطلوبين حتى وصلت الدناءة به الى بيع تاشيرات دخول الصيادين الى العراق ، ثم حين تزول السلطة وينكشف السحر والساحر وتحين ساعة الحساب واثر صدور امر قضائي بالقبض عليه يجري تهريبه الى الخارج امام مرأى ومسمع ومعرفة الجميع، فيضيع بهروبه الخيط والعصفور وتدفن الجرائم التي ارتكبها ثم لتنسى الاموال التي نهبها بعد حين قصير، ويتمتع (الاخ) باموال العراقيين البؤساء بينما يرزح 40% اربعون بالمائة منهم تحت خط الفقر !!!؟؟؟
كيف يمكن ان يكون لدينا جهاز مخابرات حقيقي والشائعات شبه المؤكدة تدور حول عمالة مجموعة من اعلى اداراته لصالح دول خليجية صغيرة كانت (تشخّ) على نفسها في زمن النظام السابق اذا ذُكر اسم العراق او مرَّ ظِلُّ جهاز المخابرات العراقي قرب حدودهم ؟؟؟
كيف يمكن ان نعيد هذا الجهاز مرة اخرى فاعلاً ومؤثرا وذا حضور وهيبة بعد ان اصبح معيار تسنم المناصب الرفيعة فيه الولاء وليس الخبرة والكفاءة ؟!
هذا المنهج العقيم الذي وضعه رئيس الجهاز السابق ليحوّله الى اداة يستخدمها في طموحاته السياسية وكأنه ارثه الشخصي ؟
ثم لا نلبث الا قليلا حتى تزيد الادارة معيارا آخر لايقل جهلا عن سابقه في التكليف باعتماد (النزاهة) !!!!
أية نزاهة وأي ولاء يارؤساء حكومة العراق ؟؟؟
اين المهنية والخبرة والكفاءة والوطنية ؟؟؟
اليست هي اعلى المعايير في التعيين والاعتماد بكل مؤسسات الدول في العالم...؟!! والامنية منها على وجه التخصيص والتحديد؟؟؟
ياولاة امورنا واصحاب الحلّ والعقد:
الحقيقة واضحة جليّةٌ امامنا ونحن نراها وندركها جيّداً فلا يوهمكم مستشاروكم واهل رأيكم الخبثاء اننا (( كشعب )) غافلون عنها لا نرى ولا نفهم لمجرد انكم تروننا صامتين !!!!
النزاهة التي تظنون انها قطعة الحلوى التي سيسيل لها لعاب الشعب ويستغفل ويستغبى، ماهي الا غطاء واهٍ مهترئ لتمرير تعيين اصحاب الولاء من العصابات بمظنة ضمان الدعم والقوة.
حتى باعلى درجات حسن الظن نقول لكم بلغة المنطق والخبرة : ان النزاهة (( على اهميتها)) لايمكن ان تكون عامل تفاضل أساس في هذا الجهاز الحساس، اذ مانفع ان يكون المدير العام او المدير او رئيس القسم او الضابط نزيهين فقط بينما هم عديمو خبرة وجهلاء في عملهم وبعضهم اغبياء ....نعم اغبياء ويكنى بعضهم (( الغبي ))....!!!
لقد قالها السيد المالكي فاصلةً قاطعةً حكيمةً في لقائه على قناة الشرقية قبل اسابيع قلائل وبالحرف الواحد:
( ابعدوووا جهاز المخابرات عن الاحزاب والفصائل المسلحة لتحافظوا على استقلاله وليكن معياره المهنية والكفاءة والخبرة فقط )،
و لاتعتمدوا على الولاء بحجة النزاهة).
كما قال:
(ابعدوا الاجهزة الامنية عن الكيانات السياسية، ولا يجوز لفصيل مسلح ان يستلم جهازا امنياً او يديره بالنيابة).
وفي هذا القول منهج وطني واضح لو اعتمدته رئاسة الوزراء الجديدة لاصلاح ماتخرّب في البلاد لكان خير هادٍ ودليل.
وخلاصة ما سلف ،يجب وباعلى درجات الوجوب ان نعمل جميعا على ابعاد جهاز المخابرات عن اي معيار ضيّقٍ خاص مهما كان : دينياً او طائفياً أو قبلياً أو عائلياً أو شخصياً، لان في ذلك خطرا شديدا على عمله الامني الدقيق ، وربما كان فعل خطأٍ واحدٍ في هذا الاطار كفيلا بجرّ كارثة على البلد، وانا اقول ذلك من واقع التجربة المباشرة وليس من باب المبالغة والتهويل ابدا، فقد اعتمدنا في فترة اعادة بناء تشكيلات الجهاز سنة 2004 شروطاً قاسية لمراقبة هذا الامر بالتحديد على جميع منتسبي الجهاز بلا استثناء، فاذا ثبُتَ على احدهم ولاءٌ او انتماءٌ او حتى ميولٌ لجهة حزبية او طائفية ما، ينقل فوراً الى خارج عمل الجهاز دون مناقشة او سماعٍ لعذرٍ او تبرير.
لذلك كان بناؤنا متيناً وعملنا ناجحاً وباعلى درجات المهنية والسرية التي يفرضها ويقتضيها وكان لكل منتسب وضابط رقم خاص يعرف به ولانسمح بتداول الاسماء على الاطلاق اما اليوم فاسماء المدراء ومن هم ادنى من مدراء الاقسام والشعب نجد اسمائهم في مواقع التواصل الاجتماعي هم وعوائلهم مع صورهم ومستمسكاتهم الرسمية....!!
ختاما اقول لاخي دولة رئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني، وهو يعلم مدى محبتي وصدق إخائي له منذ سنوات طوال حيث تجمعنا مشتركات عديدة. كما يعلم حجم وطنيتي وخوفي على وطني العراق كدولة :
صديقك من صدقك لا من صدّقك
وانا هنا أصدقك القول والنية والقصد،
واتمنى عليك ان تقرأ مقالي هذا على وفق ذلك، لا على وفق ما يوسوس به اهل الغيبة والنميمة وماسحو الاكتاف الذين سيهلكوننا جميعاً بجهالتهم و طمعهم وخبثهم وغبائهم وعطشهم للسلطة والمال.
وانوّه الى ان هذا الحديث ربما سيكون له صلة موجبة في القريب من الايام.
هذا اذا جعلنا الله عز وجل من موجوديها بمشيئته ورحمته.
0 تعليقات
إرسال تعليق