سمير داود حنوش
يحتار المُتمعّن في صورة العراق بعد عام 2003 في توصيف المشهد بين من يدّعي خلاصه من الدكتاتورية وإنتقاله إلى الديمقراطية المزعومة، ومن أيقن أنه أصبح في غياهب الفوضى والضياع وسقوط الوطن في براثن الفساد والتجهيل وإنعدام السيادة.
تضيع البوصلة في الوصف إن كان في أحسنه أو أسوئه، ليبقى السؤال قائماً عن نتائج وإرهاصات الفوضى الخلّاقة التي أرادتها كونداليزا رايس وزيرة الخارجية في عهد الرئيس الأمريكي بوش الإبن للعراقيين وأين أوصلتهم هذه النظرية.
لكن المؤكد أن النتائج تخبرنا بأي حال وصل المجتمع حين إنقلب حتى أخمص قدميه، لم يعد يُعرف الخيط الأبيض من الأسود، تحوّل العراق بفضل الفوضى الخلّاقة إلى بؤر فساد ومأوى للمخدرات، أصبح مُنتجاً لِمسوخ بشرية تقتل أطفالها وترمي بعوائلها إلى النهر، مصاصو دماء يعتاشون على أجساد الفقراء والمساكين والبؤساء، إنتعشت المنكرات وإزدهرت المحظورات، إرتفع مستوى الفاسد وهبطت درجات النزاهة والشرف، بيعت الوطنية في سوق الدعارة وتحت غُرف الرايات الحُمر، وإنتهى زمن السيادة في أروقة ودهاليز السفارات، جعلوها أمة تذبح نفسها بيديها، ماذا فعلت الفوضى الخلّاقة بالوطن؟ لقد حوّلته إلى عاهرة تستجدي النجاسة في سوق النخاسة.
في الأوراق المبعثرة التي لايقرأها سواي عثرت على قصة تدور أحداثها في غابة تقول "أن الحيوانات إجتمعت يوماً لإنتخاب من يحكمها فتداعى لها القردة والكلاب وبعض الحيوانات في الترشح لِحُكم الغابة، وبعد الإجتماع توصلوا إلى قناعة قاسية وهي أن ديكتاتورية الأسد أفضل من ديمقراطية القردة والكلاب، فهو على الأقل كان يحميهم من قردة باعت نصف الغابة من أجل الموز، وكلاب تنازلت من أجل العظام".
حاول أن تنظر إلى الصورة من الداخل وليس من الأعلى، ستجد أن الفقر والجوع والفساد والضياع بدأ يُنتج وحوشاً لاتُبالي من الإنقضاض على الأنقاض حتى ولو كانت ماتبقّى من الأطلال، ولو كانوا يملكون القدرة لجعلوا الهواء الذي يتنفسه الخلق مُقابل ثمن مدفوع مقدماً، لم يعد التفريق بين الحلال والحرام مُمكناً، فقد ضاعت البصيرة.
بعد إحتلال بغداد بأسابيع، أعلن جورج بوش في خطابه للعراقيين قوله "إفتحوا الأبواب والشبابيك، فقد هبّت رياح الديمقراطية" فعلاً هبّت الرياح ولكنها كانت عواصف القتل والطائفية والفساد والسرقة المُمنهجة وإغتيال شعب ونهب بلد.
أصبحت رائحة الموت في كل مكان، ووطن مُمزق وشعب خائف، وأرض محروقة، والخوف من المستقبل.
من دخل بيته فهو آمن، تُرى كم من العراقيين ينام في بيته وهو يشعر بالأمن والأمان؟ حكاية من حكايات زمن هولاكو الذي عاد من جديد ليحرق بغداد ويجعل نهر دجلة أزرق اللون لكثرة رمي الكتب والمُجلدات في مائه وصبغه بالحبر المكتوب.
هو الزمن الذي عاد من جديد ولكن بثوب الديمقراطية التي أرادتها أمريكا للعراقيين، إنه زمن الضياع والفوضى، سَرَديّة الزمن الأسود.
العراقيون الشعب الأوحد الذي يحن إلى ماضيه ويُطلق عليه الزمن الجميل، ويكره حاضره ويخاف من مستقبله.
الوطن الوحيد الذي كانت صورته في الماضي أجمل من حاضره وربما من مستقبله.
مأزق كبير يعيشه الوطن حيث لم يعد متأكداً من مقولة "دولة الباطل ساعة والحق، إلى قيام الساعة".
يستيقظ العراقيون صباحاً عسى أن يجدوا مايُغيّر حياتهم، لكنهم يتفاجئون بالأسوء، هو الوطن الذي نعيشه...هو العراق الذي داسته أقدام الغرباء وحولته إلى كومة من الأطلال والخراب وكهوف الظلام...وأسفاه على وطن أُستبيح أسمه العراق.
0 تعليقات
إرسال تعليق