علي السوداني
وجاء في كتاب التسفيط في نقل الوسيط ، أن جمعة الميساني كان يخرج إلى ظهر الحلفاية عند وشل العصر ومفتتح المغرب الذي يبدأ معه طنين الذباب وأزيز الحرمس والناموس وصفق أجنحة دجاج الماء والبرهي ودرب الأبلام على صفحة الماء الوفير ، ومنظر القصب والبردي وخوار الجاموس ، وقد يحظى مسمعه بتشنيف شاجن من موال تكاد بحته تشق مغطس الشمس النازلة بسرعة النفس الأخير .
في أول الرحلة يمتطي الميساني حماره الكسول المجلل ببقايا روث الحضيرة ، ثم يتركه بحلق الهور ليستقل مشحوفاً حائلاً محروساً بعواء الواوية ، ويسيح به متهادياً طاعناً وجه الماء بمردي مستقيم مثل خطوط دشداشته المقلمة التي سيستعملها تالياً حرزاً وستراً ودفئاً طيباً بمحبس نقرة السلمان الغائص بعمق صحراء عظيمة وبحر مسحور .
شاع في القرية وما حولها وبعدها أن جمعة كان في هذا السفر المكرور يكلم الزرع والطير والدواب ، ولما دخل غيبته الصغرى قيل على ألسنة صيادين ثقاة أنهم شاهدوا حوتاً دهيناً ضخماً مشحماً يغط في سويرة وعلى رأس المرأى كان ثمة قارب مقلوب على ظهره ، فكان تأويل الحكاية هو أن الفتى الميساني القصير قد سكن بطن الحوت ، وزادت الناس على مبنى القصة مما تيسر من انزياح لغة واتساع مخيال وقالت بأن من يذهب الى ضحلة الدائرة المسورة بالقصب وبالبردي والأشنات الطوال ليلة بدر مبين ، سيكون بمستطاعه سماع صوت طبول مدففة وغناء وصفق كفوف ، وهنيهة يهبط التجويد والترتيل ويسكن عند سلّم قرار الحنجرة ، سيتميز كلام شديد الوضوح قوي المعنى متين المبنى قيل أن جمعة اللامي كان قد دونه على حائط زنزانة قبل شهقات معدودات من فجر تعليق الرقبة بحبل غليظ من مسد قال :
أنا الذي لا أعوذ بالله من شبهة أنا
أنا الذي مضغ عشبة الخلود بفم الأفعى
الذي تدبر وتحسب وتنبأ
الذي ملأ شليله بالحصى ورمى
الذي قال ولم يكن بفمه ماء
الذي نام ببطن الكواسر
وأضاء ظلمة البئر
فعلام تتنابزون ؟
0 تعليقات
إرسال تعليق